الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقول الجمهور باشتراط الولي في النكاح، وأنه لا يصح نكاح إلا بولي هو القول الذي نرجحه، ونفتي به، وذلك لقوة أدلته، وكثرة القائلين به، وسبق أن بينا ذلك في الفتوى: 5855.
وما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم اشتراط الولي، وأنه يصح للمراة تزويج نفسها قول مرجوح عندنا، وتجد في الفتوى: 280042، رد الجمهور على ما استدل به الأحناف.
ومع أن هذا القول مرجوح عندنا، فقد ذكرنا أنه إذا عقد النكاح تقليدا لمذهب أبي حنيفة، أو حكم به حاكم؛ فإنه يمضي لوجود الخلاف في المسألة، وقد نقلنا كلام العلماء في ذلك في الفتوى: 47816.
وسلطة الأب على ابنته في الزواج ليست سلطة مطلقة، ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سلمة، أن أبا هريرة -رضي الله عنه- حدثهم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله (حتى تستأمر) أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله: تستأمر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك. انتهى.
ومما يدل على ذلك أيضا أن المرأة إذا تقدم إليها الكفء، ورغب فيها، ورغبت فيه، فليس لوليها منعها من الزواج منه لغير مسوغ شرعي، فإن منعها، ولم يكن له عذر كان هذا عضلا منه، فلها أن ترفع أمرها للجهات المختصة بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية، فإن ثبت عندهم العضل زوجها القاضي، أو وكَّل من يزوجها.
وليس صحيحا ما ذكرت من مجانبة فقه الواقع في الإحالة على القضاء الشرعي بدليل ما ذكرت من كون الدولة تعتمد مذهب أبي حنيفة في النكاح، فهذا يدل على أنها ترجع للشرع، واجتهادات العلماء في المسائل الشرعية المختصة بالأحوال الشخصية، وهذا يعني أن هنالك سبيلا يمكن أن يزال عن طريقه الضرر عن المرأة، وظلم الولي، أو تعسفه إن وُجِد، وذلك بالرجوع إلى الجهات المختصة بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية.
وهذه المرأة التي ترغب في الزواج منها -إن رغبت في الزواج منك، وعضلها وليها-، فلها أن ترفع أمرها للجهات المختصة بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية، فإن ثبت عند القاضي عضل وليها لها زوجها.
وفي نهاية المطاف إن تيسر لك الزواج منها، فذاك، وإلا، فابحث عن غيرها، فالنساء كثير.
ولا يصح أيضا ما ذكرت من آية سورة البقرة في العضل خاصة بالعضل في الرجعة، بل العضل عام يشمل العضل في الرجعة، والعضل في منع المرأة من الزواج ابتداء، إذا تقدم إليها كفؤها، ومنعها من الرجوع لزوجها إذا طلقها، والآية وإن كانت قد نزلت في قصة أخت معقل بن يسار حين طلقها زوجها، إلا أنها تشمل المعنى الآخر، وكما هو معلوم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن قدامة في المغني: ومعنى العَضْل منع المرأة من التزويج بكُفْئها إذا طلبت ذلك، ورَغِب كل واحد منهما في صاحبه..... انتهى
وقد ذكر بعد ذلك قصة معقل بن يسار -رضي الله عنه- ونزول الآية بسببها.
وقال النووي في المنهاج: وإنما يحصل الْعَضْلُ إذا دعت بالغة عاقلة إلَى كُفْءٍ وامتنع. انتهى.
والعضل فيه ظلم للمرأة، لا يجوز للولي فعله.
قال الألوسي في تفسيره روح المعاني: وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله، وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم. انتهى.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد في سياق كلامه على اختلاف اهل العلم في اشتراط الولي في النكاح : فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب من اشترط الولاية قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قالوا: وهذا خطاب للأولياء، ولو لم يكن لهم في الولاية لما نهوا عن العضل. انتهى
ولمزيد من الفائدة انظر الفتوى: 32427 .
والله أعلم.