الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من معوقات تحول بينك وبين تحقيق مرادك لا يعني بالضرورة أن الله -تعالى- لم يقدر لك ما تريدين.
فالله سبحانه تعالى -كما لا يخفى- هو العليم الحكيم، وهو على كل شيء قدير، وما شاء الله -تعالى- كان، وما لم يشأ لم يكن، والأمر الذي قدر الله -تعالى- وقوعه إنما يقع في الوقت الذي حدده الله -تعالى- بعلمه وحكمته، وقد يعجل به -تعالى- ويسهل طريقه، وقد يؤخره أو يصعبه إذا شاء، وما على العبد إلا أن يرضى ويسلم، وقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216}.
وعلى أي حال فقد شرعت للمسلم صلاة الاستخارة، بأن يسأل ربه -سبحانه وتعالى- أن يختار له ما فيه الخير له في دينه ودنياه، وهي سنة لمن أراد القدوم على أمر ذي بال.
ومن استخار الله -تعالى- في حصول أمر، ولم يحصل بأن صرف عنه بأي نوع من الصوارف دل ذلك على أن الله -تعالى- اختار له عدم حصوله، وإذا قدر له أن يكون الشيء، فهذا دليل على أن الله -تعالى- اختار له أن يكون.
كما يشرع استشارة ذوي الرأي ممن يعرفهم ويثق بهم.
قال الإمام ابن القيم في الوابل الصيب: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي الله عنه- يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره. انتهى.
وقال في زاد المعاد مبينا أهمية صلاة الاستخارة: وَعَوَّضَهُمْ بِهَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ تَوْحِيدٌ وَافْتِقَارٌ، وَعُبُودِيَّةٌ، وَتَوَكُّلٌ، وَسُؤَالٌ لِمَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَصْرِفُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ الَّذِي إِذَا فَتَحَ لِعَبْدِهِ رَحْمَةً لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ حَبْسَهَا عَنْهُ، وَإِذَا أَمْسَكَهَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ إِرْسَالَهَا إِلَيْهِ مِنَ التَّطَيُّرِ وَالتَّنْجِيمِ وَاخْتِيَارِ الطَّالِعِ وَنَحْوِهِ.
فَهَذَا الدُّعَاءُ، هُوَ الطَّالِعُ الْمَيْمُونُ السَّعِيدُ، طَالِعُ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتَّوْفِيقِ، الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، لَا طَالِعُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالشَّقَاءِ وَالْخِذْلَانِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الدُّعَاءُ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِهِ سُبْحَانَهُ، وَالْإِقْرَارَ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَالْإِقْرَارَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَالْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَةِ نَفْسِهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ، وَاعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِعَجْزِهِ عَنْ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَإِرَادَتِهِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَدِ وَلِيِّهِ وَفَاطِرِهِ وَإِلَهِهِ الْحَقِّ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ وَقَعَ الْمَقْدُورُ مُكْتَنفًا بِأَمْرَيْنِ: التَّوَكُّلِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونُ الِاسْتِخَارَةِ قَبْلَهُ، وَالرِّضَى بِمَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ بَعْدَهُ، وَهُمَا عِنْوَانُ السَّعَادَةِ.
وَعِنْوَانُ الشَّقَاءِ أَنْ يَكْتَنِفَهُ تَرْكُ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِخَارَةِ قَبْلَهُ، وَالسَّخَطُ بَعْدَهُ، وَالتَّوَكُّلُ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
فَإِذَا أُبْرِمَ الْقَضَاءُ وَتَمَّ، انْتَقَلَتِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى الرِّضَى بَعْدَهُ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ: وَأَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الرِّضَى بِالْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَزْمًا فَإِذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ، تَنْحَلُّ الْعَزِيمَةُ، فَإِذَا حَصَلَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ، كَانَ حَالًا أَوْ مَقَامًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ، وَاسْتِقْسَامٌ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَحُسْنُ اخْتِيَارِهِ لِعَبْدِهِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الرِّضَى بِهِ رَبًّا، الَّذِي لَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْمَقْدُورِ بَعْدَهَا، فَذَلِكَ عَلَامَةُ سَعَادَتِهِ. انتهى.
وفي جميع الأحوال عليه أن يرضى بما قضاه الله تعالى.
وما أحسن قول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب الفوائد: والعبد لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه، وحكمته، ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما مُنع منه، وبين ما ذُخِر له، بل هو مولع بحب العاجل، وإن كان دنيئا، وبقلة الرغبة في الآجل، وإن كان عليّا. انتهى.
وراجعي الفتاوى: 175489، 314107، 432628.
والله أعلم.