السؤال
رجاء توضيح المسألة التالية بكلام مفصل يزيل الشك:
قال ابن قدامة -رحمه الله-: ومن صلى قبل الوقت لم تجزه صلاته في قول أكثر أهل العلم ـ سواء فعل ذلك خطئا، أو عمدا، كل الصلاة، أو بعضها. وبه قال الزهري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، والشافعي, وروي عن ابن عمر وأبي موسى أنهما أعادا الفجر، لأنهما صليا قبل الوقت...إلخ.
وذكر في الأخير أنه روي عن الإمام مالك أنه قال: من صلى قبل مغيب الشفق الأحمر مجتهدا، فعليه إعادة الصلاة إذا تذكر في الوقت، وإذا خرج الوقت، فلا إعادة عليه، وأيضا ذكر أنه روي عن ابن عباس في شخص صلى قبل الزوال، وقال: إن هذا يجزيه، وأيضا قال ابن عبد البر بأنه روي عن أبي موسى الأشعري خلاف قول أكثر العلماء.
هل بالفعل هنالك بعض العلماء من قال بهذا؟ وإذا نعم. فكيف يفتون بمثل هذا؟ ألم يحدد الله تعالى الصلوات باوقات محددة؟
أرجو التوضيح. وهل هنالك بالفعل إجماع كما ذكر الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- بأن الصلاة لا تصح قبل الوقت؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ورد عن بعض السلف كابن عباس والحسن البصري والشعبي ما يفيد صحة صلاة من صلى قبل دخول الوقت، والظاهر أن ذلك مقيد عندهم بمن لم يفعل ذلك متعمدا. وممن نسب لهم القول بذلك من الأئمة: ابن المنذر وابن قدامة.
قال ابن المنذر في الإشراف على مذاهب العلماء: واختلفوا في الصلاة قبل دخول الوقت. فروينا عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعري أنهما أعادا الفجر، لأنهما كانا صلاها (صلياها) قبل الوقت، وبه قال الزهري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي. وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: في رجل صلى الظهر في السفر قبل أن تزول الشمس، قال يجزيه. وقال الحسن: مضت صلاته، وبنحو ذلك قال الشعبي. وعن مالك: فمن صلى العشاء في السفر قبل غيوبة الشفق جاهلاً أو ساهياً يعيد ما كان في وقت العشاء، فإذا ذهب الوقت قبل أن يعلم أو يذكر، فلا إعادة عليه. انتهى.
ملاحظة: في النسخة المطبوعة من الإشراف بتحقيق د. أبي حماد الأنصاري، وكذا في نسخ الشاملة: (وقال الحسن: مضت صلاته وبنحو ذلك قال الشافعي) بدلا من الشعبي، ونظنه خطئا، إذ لم نجد نسبة هذا القول للشافعي، وإنما المعروف نسبته للشعبي.
وقال ابن قدامة في المغني: (فصل: ومن صلى قبل الوقت، لم يجز صلاته، في قول أكثر أهل العلم، سواء فعله عمدا أو خطأ، كل الصلاة أو بعضها. وبه قال الزهري، والأوزاعي والشافعي، وأصحاب الرأي. وروي عن ابن عمر، وأبي موسى أنهما أعادا الفجر، لأنهما صلياها قبل الوقت. وروي عن ابن عباس في مسافر صلى الظهر قبل الزوال، يجزئه. ونحوه قال الحسن، والشعبي. وعن مالك كقولنا. وعنه فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق جاهلا أو ناسيا، يعيد ما كان في الوقت، فإن ذهب الوقت قبل علمه، أو ذكر، فلا شيء عليه. ولنا أن الخطاب بالصلاة يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها، وما وجد بعد ذلك ما يزيله ويبرئ الذمة منه، فيبقى بحاله). اهـ
ولا شك أن هؤلاء يقولون بمقتضى النصوص التي فيها تحديد أوقات الصلوات أولا وآخرا، وقولهم هذا - إن صح عنهم - ليس في جواز صلاتها خارج هذه الأوقات ابتداء، وإنما هو فيمن صلى قبل هذه الأوقات ظنا منه أنه صلى فيها هل تلزمه الإعادة أم لا؟
قال ابن المنذر في الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف مبينا حجتهم فيما ذهبوا إليه: ... وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ بِغَيْرِ الْوَقْتِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ الْوَقْتُ أَجْزَأَ عَنْهُ, وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ جَاهِلًا أَوْ سَاهِيًا. قَالَ: يُعِيدُ مَا كَانَ فِي وَقْتٍ, فَإِذَا ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَذْكُرَ, فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ, فَمِنْ حُجَّةِ بَعْضِ مَنْ رَأَى أَنَّ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ الْوَقْتُ, فَصَلَّى فِي الظَّاهِرِ, عِنْدَ نَفْسِهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ إِلَّا بِحُجَّةٍ. انتهى.
أما ما نقل عن ابن عثيمين من الإجماع في المسألة، فقد جاء في الشرح الممتع على زاد المستقنع: والصلاة لا تصح قبل الوقت بإجماع المسلمين، فإن صلى قبل الوقت، فإن كان متعمدا فصلاته باطلة، ولا يسلم من الإثم، وإن كان غير متعمد لظنه أن الوقت قد دخل، فليس بآثم، وصلاته نفل، ولكن عليه الإعادة؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت. اهـ
وممن ذكر الإجماع في هذه المسألة قبل ابن عثيمين من فقهاء الأمة ابنُ عبد البَرِّ قال في الاستذكار: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ مِنْ فَرَائِضِهَا، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، فَلَمْ نَرَ لِذِكْرِهِ وَجْهًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي عَنْهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى خِلَافُهُ بِمَا يُوَافِقُ الْجَمَاعَةَ، فَصَارَ اتِّفَاقًا صَحِيحًا. انتهى.
والله أعلم.