الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما أطلت بذكره ليس بمشكل على الحقيقة؛ فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم، فإن لم يكن للظالم حسنات، أخذ من سيئات المظلوم، فطرحت على الظالم، فإن دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقّه، فخف وزر الظالم بذلك، ومن دعا على ظالمه بالعقوبة، فقد انتصر لنفسه، وتعجل شيئًا من حقّه، ولا إثم عليه في ذلك، لكن يفوته مقام العفو وأجره، فأي إشكال في هذا؟ بل هو مقتضى العدل، والحكمة التامة.
ومما يجلي لك معنى أن الدعاء على الظالم نوع من الانتصار: معرفة أحوال المظلوم مع ظالمه، فأعلى المراتب هو العفو، ثم الانتصار بالعدل -ومن أنواع الانتصار: الدعاء عليه-، وأدناها هو الجور على الظالم بما يزيد عن ظلمه، قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة:
أحدها: أن يستوفي حقه الذي يستحقه، من غير زيادة أو نقصان، وهو العدل.
الثاني: أن يحسن إليه بالعفو، والصلة، وذلك هو الفضل.
الثالث: أن يظلمه بما لا يستحقه، وذلك هو الجور، وهو اختيار الأراذل، والثاني هو اختيار الصديقين، والأول هو منتهى درجات الصالحين. انتهى.
وقد بسط الكلام في المراد من هذا الحديث الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن سب السارق، والدعاء عليه، خرج أبو داود من حديث عائشة، "إنها سرقت ملحفة لها، فجعلت تدعو على من سرقها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبخي عنه». قال أبو داود: لا تسبخي: أي: لا تخففي.
وخرجه الإمام {أحمد} من وجه آخر، عن عائشة، قالت: "سرقت لحفتي، فدعوت الله على صاحبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبخي عنه، دعيه بذنبه". والمراد، أن من ذهب له مال بسرقة، ونحوها، فإن ذهابه من جملة المصائب الدنيوية، والمصائب كلها كفارة للذنوب، والصبر عليها: (يحصل للصابر) الأجر الجزيل. وفي حصول الأجر له على مجرد المصيبة، خلاف مشهور بين العلماء.
فإذا كانت المصيبة من فعل آدمي ظالم -كالسارق، والغاصب، ونحوهما-؛ فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم، فإن لم يكن له حسنات، طرحت من سيئات المظلوم عليه.
فإن دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقّه، فخف وزر الظالم بذلك؛ فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصبر، فلا تدعو عليه، فإن ذلك يخفف عنه. وخرج الترمذي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من دعا على من ظلمه، فقد انتصر».
وروي ليث، عن طلحة: أن رجلًا لطم رجلًا، فقال: اللهم إن كان ظلمني، فاكفنيه. فقال له مسروق: قد استوفيت. وقال مجاهد: لا تسبن أحدًا؛ فإن ذلك يخفف عنه، ولكن أحب لله بقلبك، وأبغض لله بقلبك. وقال سالم بن أبي الجعد: الدعاء قصاص.
وشكا رجل إلى عمر بن عبد العزيز رجلًا ظلمه، وجعل يقع فيه، فقال له عمر: إنك أن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد استقضيتها. وقال أيضًا: بلغني أن الرجل، ليظلم بمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتى يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه. قال بعض السلف: لولا أن الناس يدعون على ملوكهم؛ لعجل لملوكهم العقاب. ومعنى هذا: يشير إلى أن دعاء الناس عليهم استيفاء منهم بحقوقهم من الظالم، أو لبعضها؛ فبذلك يدفع عنهم العقوبة. وروي عن الإمام أحمد، قال: ليس بصابر من دعا على من ظلمه.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عز وجل، إلا أعزّ الله بها نصره". ويشهد له ما خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا". فإن دعا على من ظلمه بالعدل، جاز، وكان مستوفيًا لبعض حقه منه، وإن اعتدى عليه في دعائه، لم يجز. اهـ. من مجموع رسائله.
وجاء في التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني: (من دعا على من ظلمه) أي: ظلم (فقد انتصر) لنفسه، فلم يبق له أجر على ظالمه، ولا استحقاق عقوبة منه أخرى، فمن أراد بقاء القصاص، سكت عن ظالمه، ولم يدع عليه، وإلا عفا عنه؛ ليكون أجره على الله، فللمظلوم مع ظالمه ثلاث حالات: الانتصاف بالدعاء عليه، أو بالتأخير إلى الآخرة، أو بعفو، فيكون أجره على الله، وهذا أحسنها، وأعودها نفعًا للمظلوم. اهـ.
وفي الختام: نشكر لك تواصلك معنا، ونقول لك: إن الكثير من أسئلتك يتسم بالتكلف، والإغراب، والتعمق المذموم، والتنقير عن الإشكالات، واختراعها، وهذه الطريقة في الأسئلة مذمومة، وراجع في بيان هذا الفتوى: 286822.
والله أعلم.