السؤال
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ. سورة آل عمران.
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) سورة نوح.
سبحان الله ما هذا الأسلوب العجيب، فلم يدعوا بما يتمنون هنا، إنما يكلمون الله بما حدث وانتهى، والله به أعلم.
ما اسم هذا الأسلوب وثمراته، وإن أمكن مقتبسات العلماء عن هذا الأسلوب قدر المستطاع.
أشعر بأن هذا الأسلوب يريح القلب، ويداويه؛ رغم أن الله أعلم وبصير بما حدث، لكن الكلام مع الله الذي نحبه في حد ذاته راحة.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن صيغ دعاء الله جل وعلا ومسألته لها أحوال متعددة بحسب ما يناسب حال الداعي، فحينا يكون الدعاء بصيغة الطلب الصريح أكمل -وهو الغالب على الأدعية الواردة في الشرع-، وفي أحيان أخرى يكون اكتفاء العبد بوصف حاله - بما يتضمن الطلب لكن دون تصريح به- أكمل وأحسن في الأدب مع الله، كما في دعاء يونس عليه السلام: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {الأنبياء:87}، ودعاء أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {الأنبياء:83}.
قال ابن تيمية: فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسئول، وإما بوصف الحالين. كقول نوح - عليه السلام - {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47] فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر. ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة.
وكذلك قول آدم - عليه السلام -: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] هو من هذا الباب.
ومن ذلك قول موسى - عليه السلام -: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24] فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه.
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه مالك بن الحويرث وقال: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ.
وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله: أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فذكر هذا الحديث، وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء.
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء.
قال: فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى.
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. فهذا خبر يتضمن السؤال.
ومن هذا الباب قول أيوب - عليه السلام -: {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83] فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال.
وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال.
وإن كان في قوله: أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسئول، فذاك فيه إظهار حاله، وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب.
وهذه الصيغة "صيغة الطلب والاستدعاء" إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال.
ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان. وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة، فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول، وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسئول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة «كقول النبي لأبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» . أخرجاه في الصحيحين.
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضي للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب.
وكثير من الأدعية يتضمن بعد ذلك.
كقول موسى - عليه السلام -: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} [الأعراف: 155] فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة.
وقوله: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص: 16] فيه وصف حال النفس والطلب.
وقوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24] فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال، فهذه أنواع، لكل نوع منها خاصة.
يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
فيقال: لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم.
وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني؛ بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه، فجاء بما يحصل مقصوده .اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى.
والله أعلم.