السؤال
سمعت من الشيخ العلامة أبي إسحاق الحويني في شبكة الاتصالات الدولية أن العلماء في ما سبق كانو يحبون إذا ابتلوا أن يكون البلاء في دينهم، وكلام الشيخ على هذا المعنى مفسرًا ذلك بأن المرء لا بد له من البلاء، فإن كان كذلك فالابتلاء في الدين أعظم أجرًا. لكن الرسول كان يدعو كما في الحديث: اللهمَّ اقسمْ لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصيكَ, ومن طاعتِك ما تبلغُنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما يهونُ علينا مصيباتِ الدنيا, ومتعنَا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أحييتَنا, واجعلْه الوارثَ منا, واجعلْ ثأرنا على منْ ظلمَنا, وانصرْنا على منْ عادانا, ولا تجعلْ مصيبَتنا في دينِنا, ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا, ولا مبلغَ علمِنا, ولا تسلطْ علينا منْ لا يرحمُنا.
الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: السيوطي - المصدر: الجامع الصغير - الصفحة أو الرقم: 1499
خلاصة حكم المحدث: صحيح
يعني حسب فهمي أن البلاء في الدين مكروه -والله أعلم-. فهل فهمي صحيح؟ أم أن العلماء وهم ليسوا بمعصومين قد سهوا -رحمهم الله-. كذلك فإن من دعائي لنفسي قولي: اللهم لا تعذبني ولا تعاقبني ولا تبتليني، واجعل أجري في كثرة عملي الصالح. فهل هذا ممكن؟
أفتونا مشكورين، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نطلع على كلام الشيخ. وعلى أية حال فإنه يمكن حمل معنى الابتلاء في هذا الكلام على معنى الشدائد والمصاعب التي تصيب المرء، فخير له أن يصيبه ما يصيبه من ذلك بسبب تحمله لأعباء القيام بأمر الشريعة، وحمله لِهَمِّ الدين ونشره ونصرته. فهذا خير له من أن يصيبه ذلك بسبب أمور المعاش وأحوال الدنيا.
وأما الدعاء النبوي المبارك: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، فمعنى المصيبة فيه مغاير للمعنى السابق، وإلا فإن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. وإنما المصيبة هنا معناها النائبة التي تصيب المرء، فيضعف دينه، أو ينقص منه شيء. وفرق عظيم بين مصيبة الدين، ومصيبة الدنيا، وإن كان الجميع مما يكره الإنسان.
قال الصنعاني في شرح الجامع الصغير: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) فإنها هي المصيبة الحقيقية، ولذا يقال:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته فيها فليس بضائري. اهـ.
وعلى ذلك دار كلام أهل العلم في شرح الحديث، قال المظهري في شرح المصابيح: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) أي: ولا توصل إلينا ما ينقص به ديننا وطاعتنا، من اعتقاد سوء، أو أكل حرام، أو فترة في العبادة، وما أشبه ذلك. اهـ.
وتبعه على ذلك شراح المصابيح، كالطيبي، وابن الملك الكرماني، والقاري، وأبو الحسن المباركفوري. وشراح الترمذي، كالسيوطي والمباركفوري. وشراح الجامع الصغير، كالمناوي والعزيزي. وراجع لبيان الفرق بين الابتلاء والمصيبة، الفتوى رقم: 27585.
وأما الدعاء الذي يدعو به السائل، ففيه عبارة محل نظر، وهي: (اللهم لا تبتليني، واجعل أجري في كثرة عملي الصالح) فإطلاق الدعاء بعدم الابتلاء يخالف سنة الله تعالى في خلق البشر، فما من أحد من الناس إلا ولا بد وأن يصيبه في الدنيا شيء مما يكره، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ... [البقرة:155]، وقال عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] وقال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35]. وقد بوَّب ابن أبي شيبة في مصنفه بابا في: (ما لا ينبغي للرجل أن يدعو به) أسند فيه عن مجاهد، قال: كان يكره أن يقول: اللهم لا تبتلني إلا بالتي هي أحسن. ويقول: قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. اهـ
وقال الحصكفي في الدر المختار: ويحرم سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين ودفع شرهما، أو المستحيلات العادية، كنزول المائدة، قيل: والشرعية. اهـ.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد: الاعتداء في الدعاء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، ويتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله. اهـ.
وقعَّد القرافي في الفروق قاعدة للفرق ما هو محرم من الدعاء وليس بكفر، وبين قاعدة ما ليس محرما، قال فيه: قد حضرني من المحرم الذي ليس بكفر اثنا عشر قسما ثبت الحصر فيها بالاستقراء، فتكون هي المحرمة وما عداها ليس محرما عملا بالاستقراء في القسمين ..
القسم الأول: أن يطلب الداعي من الله تعالى المستحيلات التي لا تخل بجلال الربوبية وله أمثلة: ... (الثالث) أن يسأل الله تعالى الاستغناء في ذاته عن الأعراض ليسلم طول عمره من الآلام والأسقام والأنكاد والمخاوف وغير ذلك من البلايا، وقد دلت العقول على استحالة جميع ذلك، فإذا كانت هذه الأمور مستحيلة في حقه عقلا كان طلبها من الله تعالى سوء أدب عليه؛ لأن طلبها يعد في العادة تلاعبا وضحكا من المطلوب منه، والله تعالى يجب له من الإجلال فوق ما يجب لخلقه، فما نافى إجلال خلقه أولى أن ينافي جلاله من كل نقص ... وقس على هذه المثل نظائرها، واقض بأنها معصية، ولا تصل إلى الكفر؛ لأنها من باب قلة الأدب في المعاملة دون انتهاك حرمة ذي الجلال والعظمة. اهـ.
وسئل ابن حجر الهيتمي كما في (الفتاوى الحديثية) عن كلام القرافي هذا، وهل إذا قال الداعي: اللهم سهل لي أو قال أعطني ما أحب واصرف عني ما أكره. هل يكون من هذا القبيل؟ بدليل أن الداعي يلحقه من الأمراض والشواغل نحو ذلك. فإذا قلتم نعم فذاك، وإلا فما الفرق؟
فأجاب بقوله: ما ذكره القرافي صحيح، وقد أقره عليه جماعة من أئمتنا، وحينئذ فإذا قال الداعي: "اللهم سهل لي وأعطني ما أحب واصرف عني ما أكره" فإن أراد العموم الذي ذكره القرافي حرم عليه ذلك، وإن أراد إعطاء ما يجب من أنواع مخصوصة جائزة، وصرف ما يكره من أنواع كذلك، أو أطلق فلم يرد شيئا: لم يحرم عليه ذلك ... اهـ.
وعلى أية حال، فالأفضل للمرء حين يدعو أن يلتمس أدعية القرآن والسنة ويكتفي بهما، ففيها الخير والبركة والكفاية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها ـ: يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. رواه أحمد وأبو داود. وصححه الألباني.
ومن الوارد في السنة في هذا المعنى: سؤال العافية، فإن العافية معناها السلامة في الدين من الفتن، وفي البدن من الأسقام، وفي الأهل والمال من المصائب، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 52802.
ومن أحاديث هذا الباب:
حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أول على المنبر، ثم بكى: فقال: سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية. رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.
وحديث أبي هريرة مرفوعا: ما من دعوة يدعو بها العبد أفضل من: اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة. رواه ابن ماجه، وجوده المنذري وصححه الألباني.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عباس عم النبي! أكثر من الدعاء بالعافية. قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. اهـ وصححه الألباني.
ومن هذا الجنس من الدعاء أيضا: استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من زوال النعمة وتحول العافية، فعن عبد الله بن عمر قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. رواه مسلم. قال المناوي في (فيض القدير): (وتحول عافيتك) أي تبدلها .. فكأنه سأل دوام العافية، وهي السلامة من الآلام والأسقام. اهـ
والله أعلم.