الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فسبب إشكال السائل أنه لم يتصور حقيقة المتعة، وتاريخها!
فالإسلام لم يبتدئ تشريع المتعة، كما لم يبتدئ تشريع شرب الخمر في أول الإسلام، وإنما جاء على واقع معين يعيشه الناس، ويمارسونه بالفعل:
فأقر منه أشياء للأبد، مثل النكاح الشرعي المعروف اليوم.
وأقر منه أشياء لفترة معينة في أول الأمر، ثم حرمها، كنكاح المتعة.
وحرم أشياء من البداية، مثل الزنى.
ولا يخفى على ذي فطنة: الفرق الكبير بين إقرار شيء موجود بالفعل، وبين ابتدائه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودًا! كما هو الحال في الخمر، فلم يشرعها الإسلام ابتداءً، بل كانت موجودة ومنتشرة، فلم يحرمها في البداية، ولكن انتهى أمرها إلى التحريم.
فلو عادت أحوال بعض المجتمعات مع الخمر لتشبه حال أهل الجاهلية قبل الإسلام، لم يكن لهم استحلال الخمر قياسًا على حال أهل الجاهلية! فكذلك في أمر النكاح، لا يشرع منه إلا النكاح المعروف، ولو تغيرت الأحوال وساءت.
وفي هذا جواب على قول السائل: (ثم بالقياس على علة التحليل ألا يوجد في زماننا هذا ما هو أصعب .. ) الخ.
فمهما اشتدت الحاجة إلى الزواج، وتعسرت أموره، فلا يجوز نكاح المتعة بحال، وإنما يؤمر من وقع في مثل هذه الحال بقول الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، قال السعدي في تفسيره: هذا حكم العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل أيضًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. اهـ. وانظر الفتويين: 11583، 485. هذا أولًا.
وثانيًا -وهو الأهم-: أن القدر الذي أقره الإسلام من نكاح المتعة، لا يشكل عليه ما ذكره السائل في أول سؤاله!
وإنما يشكل هذا على الأحكام التي اخترعها بعض أهل البدع، وألصقوها زورًا بنكاح المتعة، الذي أقره الإسلام في أول الأمر!
فنكاح المتعة الذي أقره الإسلام فيه توثيق وترتيب يضمن حق الزوجين، وحق النسب للولد -إن وجد-؛ وذلك لأنه - على الراجح - نكاح بوليّ، وشهود، واستبراء رحم بعد انقضاء مدته؛ لضمان عدم حمل المرأة، فإن تبين حملها في هذه المدة، فلا خلاف بين أهل العلم في لحوق نسب المولود بأبيه، وما يفهم منه غير ذلك، فليس بصحيح؛ ولذلك قال ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز: كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام ... وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين، وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة، فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها؛ لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره. وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن نكاح المتعة كان بلا ولي، ولا شهود، وفيما حكاه ضعف. اهـ.
وعلى هذا؛ فالفرق بين نكاح المتعة، وبين النكاح المعروف في أمرين اثنين:
الأول: أنه لا توارث فيه بين الزوجين.
والثاني: أنه مؤقت بمدة، فإذا انقضت لم يكن للرجل عصمة على المرأة، ولا يستطيع إمساكها بغير رضاها هي ووليها.
ومن عرف هذا عرف الفرق بين نكاح المتعة الذي لم يُحرَّم في أول الإسلام، وبين نكاح المتعة في فقه أهل البدع، فهذا هو الذي يشبه الزنى بحق.
ولذلك قال النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ، عن المتعة التي هي عبارة عن قول الرجل للمرأة: (أتزوجك يومًا، أو ما أشبهه، على أنه لا عدة عليك، ولا ميراث بيننا، ولا طلاق، ولا شاهد يشهد على ذلك). قال: وهذا هو الزنى بعينه، ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة. اهـ.
ونقل القرطبي كلام النحاس بزيادة عبارة مهمة، ولفظه: وهذا هو الزنى بعينه، ولم يُبح قط في الإسلام؛ ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة. اهـ.
وقد سبق لنا مزيد إيضاح في بيان سبب إباحة نكاح المتعة ثم تحريمه، وذلك في الفتوى رقم: 221329.
وأما كلام الأخ السائل عن قضية الإذن في نكاح المتعة، ولماذا لم يُؤذن لهم في الاستمناء بدلًا منه؟
فهذا يمكن أن يقال في زماننا هذا على سبيل التنزل! لأنه بعد تحريم المتعة، ففعلها يُعدُّ من الزنى المقَنَّع! وهو بطبيعة الحال أشد حرمة من الاستمناء.
وأما في العهد الأول فلم تكن المتعة بعدُ قد حرمت، ولا يخفى أن فعل المباح المأذون فيه، مقدَّم على فعل المنهيِّ عنه المخلِّ بالمروءة - أعني: الاستمناء -، ومن ثم؛ فلا تصح هذه المقارنة.
والله أعلم.