الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مسألة اختصاص الإجماع بالعلماء المجتهدين، وعدم اعتبار خلاف العامة في انعقاد الإجماع، من المسائل الأصولية المشهورة.
جاء في التحبير شرح التحرير: {لا يعتبر قول العامة} في الإجماع عند العلماء، وهذا هو الصحيح المعتمد عليه، سواء كانت مسائله مشهورة، أو خفية، فلا اعتبار لمخالفتهم، ولا بموافقتهم، وإنما يعتبر قول المجتهدين فقط.
واعتبره قوم مطلقا، فقالوا: لا بد من موافقتهم حتى يصير إجماعا.
واعتبره قوم في المسائل المشهورة، كالعلم بوجود التحريم بالطلاق الثلاث، وأن الحدث في الجملة ينقض الطهارة، وأن الحيض يمنع أداء الصلاة، ووجوبها، ونحوها دون المسائل الخفية، كدقائق الفقه. اهـ.
ثم قال -في بيان معنى هذا الخلاف، وما يترتب عليه، وهل هو حقيقي، أم لفظي- : اختلفوا في معنى ذلك:
فقال الآمدي: إن قيام الحجة يفتقر إلى وفاقهم.
قال الباقلاني ما حاصله: أن الخلاف يرجع إلى إطلاق الاسم، يعني أن المجتهدين إذا أجمعوا هل يصدق أن الأمة أجمعت، ويحكم بدخول العوام فيهم تبعا أو لا؟
فعنده لا يصدق، وإن كان ذلك [لا يقدح] في حجيته، وهو خلاف لفظي؛ لأن مخالفتهم لا تقدح في الإجماع قطعا. وتبع ابن الباقلاني كثير من المتأخرين، على أن الخلاف لفظي راجع إلى التسمية.
لكن أبو الحسين في "المعتمد" نقل عن قوم أن الإجماع لا يحتج به إلا مع وفاق العامة. وحكى القاضي عبد الوهاب، وابن السمعاني أنه يعتبر في الإجماع العام، وهو ما ليس بمقصور على العلماء وأهل النظر، كالمسائل المشهورة بخلاف دقائق الفقه.
قيل: وبهذا التفصيل يزول الإشكال، وينبغي تنزيل إطلاق المطلقين عليه.
وخص القاضي الباقلاني الخلاف بالخاص، وقال: لا يعتبر خلاف العام اتفاقا، وجرى عليه الروياني في "البحر". اهـ.
وأما حجج عدم اعتبار خلاف العامة مانعا من انعقاد الإجماع، فقد أفاض الغزالي في تقريرها ببيان بديع.
فقال: المجمعون وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والإثبات، وأوساط متشابهة.
أما الواضح في الإثبات فهو: كل مجتهد مقبول الفتوى، فهو أهل الحل والعقد قطعا، ولا بد من موافقته في الإجماع.
وأما الواضح في النفي: فالأطفال والمجانين والأجنة، فإنهم وإن كانوا من الأمة، فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله: «لا تجتمع أمتي على الخطأ» إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمها. فلا يدخل فيه من لا يفهمها.
وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذي ليس بأصولي، والأصولي الذي ليس بفقيه، والمجتهد الفاسق والمبتدع.
ثم قال: يتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس، ووجوب الصوم والزكاة والحج، فهذا مجمع عليه، والعوام وافقوا الخواص في الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد. فما أجمع عليه الخواص، فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد، لا يضمرون خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه. ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة، كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة، فصالحوهم على شيء، يقال هذا باتفاق جميع الجند. فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين، فهو مجمع عليه من جهة العوام، وبه يتم إجماع الأمة.
فإن قيل: فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر. فهل ينعقد الإجماع دونه؟ إن كان ينعقد فكيف خرج العامي من الأمة، وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي؟
الأصح: أنه ينعقد بدليلين أحدهما: أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة؛ ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا من يتصور منه الإصابة لأهليته.
والثاني، وهو الأقوى: أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، أعني خواص الصحابة وعوامهم؛ ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدري ما يقول، وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه.
وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل؛ لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري، فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا.
ويدل على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء، ويحرم ذلك عليه، ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم، وقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]، فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط.
وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء، وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى، وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم، فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة كما يعصي من يخالف خبر الواحد، ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع، فإذا امتنع بمعصية، أو بما ليس بمعصية، فلا حجة، وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل.اهـ. من المستصفى.
فالخلاصة: أن العوام تبع للعلماء المجتهدين، فإذا أجمع العلماء المجتهدون على حكم شرعي، فالعوام تبع لهم، فيصح بهاذ الاعتبار أن يقال بأن العوام داخلون في الإجماع، ولو فرضنا أنه خالف العوام علماء العصر في حكم شرعي، فإنه لا يعتبر خلافهم مانعا من انعقاد الإجماع.
وقولك: (مع أن الحديث جاء صريحا في اللفظ: ما اجتمعت أمتي على شيء إلا وهو خير لها) فلم نقف على حديث بمثل هذا اللفظ، وإنما الحديث المروي لفظه: إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة. وكثير من العلماء على عدم ثبوت هذا الحديث أصلا، كما بيناه في الفتوى رقم: 285655.
وأما بقية سؤالك: (مع العلم بأن النبي صلى الله عليه، وآله وسلم قال: إن هناك ناسا هجروا القرآن، وقال لهم: سحقا، لكن كانوا من الأئمة أيضا.
فالنص الديني لا يعترف بهاجري القرآن أنهم من أمة النبي صلى الله عليه، وآله وسلم. ولو فعلا هجرو القرآن ليسوا من الأئمة.
ما الدليل على أن أمة محمد فقط هم الصادقون ومن سواهم لا؟)
فخلاصته -مع عدم وضوحه لضعفه وركته- أنه يجب منع حمل (أمتي) في حديث الإجماع على العلماء المجتهدين، كما لم يحمل قوله (أمتي) في حديث الحوض على العلماء المجتهدين!!
إن كان هذا هو مراده، فهو إيراد غريب عجيب، فلا يلزم أبدا من كون المراد بـ(أمتي) العلماء المجهتدون في حديث: إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة. أن تكون لفظة (الأمة) أو (أمتي) في جميع إطلاقتها في الشرع خاصة بالعلماء! ، ولم يقل بهذا أحد أصلا، فضلا عن أن الحديث ضعيف كما أشرنا إليه، وفي كلام الغزالي الذي نقلناه آنفا، بيان كاف شاف في وجه عدم الاعتداد بخلاف العوام.
وأما عن أحاديث المذادين عن الحوض: فلم نقف على ذكر لهاجري القرآن في شيء من روايتها أبدا.
ونذكر الأخ السائل بوجوب التحري في رواية الحديث، والحذر من التساهل في نقله، تجافيا عن الوقوع في موبقة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر في هذا الفتوى رقم: 326947.
ثم إن المذادين عن الحوض يرى كثير من العلماء أنهم المرتدون عن الإسلام إلى الكفر، فيكون إيرادك هذا لا أساس له أصلا.
جاء في فتح الباري: قوله: فيقول الله: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. في حديث أبي هريرة المذكور، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، وزاد في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أيضا، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا، سحقا. أي بعدا، بعدا. والتأكيد للمبالغة. وفي حديث أبي سعيد في باب صفة النار أيضا، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي. وزاد في رواية عطاء بن يسار: فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه: ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني. وسنده حسن. وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه، وزاد: فقلت: يا رسول الله؛ ادع الله أن لا يجعلني منهم، قال: لست منهم. وسنده حسن.
قوله: قال: فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم. وقع في رواية الكشميهني: لن يزالوا، ووقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء، قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقد وصله الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة.
وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين، ويدل قوله: أصيحابي بالتصغير، على قلة عددهم.
وقال غيره: قيل هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة، ورُجح بقوله في حديث أبي هريرة: فأقول: بعدا لهم وسحقا. ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه.
وهذا يرده قوله في حديث أنس: حتى إذا عرفتهم، وكذا في حديث أبي هريرة. وقال ابن التين: يحتمل أن يكونوا منافقين، أو من مرتكبي الكبائر. وقيل هم قوم من جفاة الأعراب، دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة. وقال الداودي: لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر والبدع في ذلك. وقال النووي: قيل هم المنافقون والمرتدون، وقيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام، وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار، لجواز أن يذادوا عن الحوض أولا عقوبة لهم، ثم يرحموا.
ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر، إنهم من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم.
وقال البيضاوي: ليس قوله مرتدين نصا في كونهم ارتدوا عن الإسلام، بل يحتمل ذلك. ويحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدون عن الاستقامة، يبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة .اهـ. باختصار.
وعلى كل حال: فإن أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لها إطلاقان، فتطلق ويراد بها أمة الدعوة، وهم كل من أرسل إليهم النبي صلى الله من الناس كافة عربا وعجما، وتطلق ويراد بها: أتباعه المؤمنون به -ويدخل فيهم الفساق-، وهم أمة الإجابة، كما بيناه في الفتوى رقم: 130554. فهاجر القرآن ما دام مسلما، فهو من أمة الإجابة قطعا، وراجع حول معنى هجر القرآن العظيم، الفتوى رقم: 314782.
وانظر حول الإجماع، الفتوى رقم: 28730.
والله أعلم.