السؤال
سمعت فتوى لابن عثيمين، مقتضاها أنه يجوز ترعيد المدود في قراءة القرآن، وقال ابن القيم كذلك، وقرأت فتوى في أحد المواقع الإسلامية تقول: فلا يجوز الترعيد عند أئمة القراءة؛ فقد جاء في الإقناع في القراءات السبع لابن البَاذِش الغرناطي: قول الأهوازي: أما الترعيد في القراءة: فهو أن يأتي بالصوت إذا قرأ مضطربًا، كأنه يرتعد من برد، أو ألم، وربما لحق ذلك من يطلب الألحان. انتهى.
ثم ذكر الخلاف في القراءة بالتلحين، ثم قال: فأما الإقراء به فلا يجوز، ولا بالتطريب، ولا بالترقيص، ولا بالتحزين، ولا بالترعيد، على ذلك وجدت علماء القراءة في سائر الأمصار. انتهى.
وقال مناع القطان، في مباحث في علوم القرآن: وقد نبَّه العلماء على ما ابتدعه الناس من ذلك بما يسمى: بـ: الترعيد، أو الترقيص، أو التطريب، أو التحزين، أو الترديد، ونقل ذلك السيوطي في الإتقان، وعبَّر عنه الرافعي في إعجاز القرآن بقوله: ومما ابتُدِع في القراءة والأداء هذا التلحين، الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم، وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرؤون به على ما يشبه الإيقاع، وهو الغناء! ... ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم الترعيد، وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا: كأنه يرعد من البرد أو الألم. انتهى.
وممن نبه على منعه كذلك السخاوي، في جمال القراء."
فما هو الصواب هل يجوز ترعيد المدود أم لا؟ وهل يجوز ترعيد الغنة؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد نص جمع من القراء على منع القراءة بالترعيد، وعلى أنه بدعة، ومن هؤلاء الداني وابن الباذش، والجزري والسيوطي، والسخاوي وغيرهم.
فقد جاء في الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش: قال لي شيخنا الأهوازي: اعلم أن القرآن يُقرأ على عشرة أضرب: بالتحقيق، وباشتقاق التحقيق، وبالتجويد، وبالتمطيط، وبالحدر، وبالترعيد، وبالترقيص، وبالتطريب، وبالتلحين، وبالتحزين.
قال الأهوازي: سمعت جماعة من شيوخي يقولون: لا يجوز للمقرئ أن يقرئ منها بخمسة أضرب: بالترعيد، والترقيص، والتطريب، والتلحين، والتحزين. اهـ.
وقال الجزري في التمهيد في علم التجويد: وابتدعوا أيضاً شيئاً سموه الترقيص، وهو أن يروم السكت على الساكن، ثم ينفر مع الحركة في عدو وهرولة.
وآخر سموه الترعيد، وهو أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد وألم، وقد يخلط بشيء من ألحان الغناء. اهـ
وقال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن: ومما ابتدعوه شيء سموه الترعيد، وهو أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد، أو ألم. اهـ.
وأما ما سمعت من فتوى ابن عثيمين، فلم نطلع عليها .
وأما الإمام ابن القيم، فالمعروف عنه في كتابه القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد، هو جواز التغني بالقرآن من دون تكلف، ولم يذكر جواز الترعيد.
فقد قال رحمه الله تعالى: التطريب والتغني على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين، ولا تعليم، بل إذا خلي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز؛ وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً. والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق، لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس من الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع، وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة، على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات، وحركات موزونة، معدودة، محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها، ويسوغوها. انتهى.
والله أعلم.