الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنا نسأل الله لنا، ولك العافية، ونفيدك أن الرقية الشرعية لا حرج على العبد في فعلها، ولو لم يكن مصابًا، كما قال النووي.
ويجوز للراقي أن يأخذ عليها الأجرة، كما عمل أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-؛ ففي الصحيحين: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ. فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ، أَوْ مُصَابٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ.
قال النووي -رحمه الله-: هَذَا تَصْرِيح بِجَوَازِ أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى الرُّقْيَة بِالْفَاتِحَةِ، وَالذِّكْر, وَأَنَّهَا حَلَال لَا كَرَاهَة فِيهَا. انتهى من شرح صحيح مسلم.
واعلم أن الراقي لا يشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، كما جاء في حديث الغلام والساحر، لما قال جليس الملك للغلام المؤمن -وقد أتى له بهدايا كثيرة-: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال له الغلام: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن أنت آمنت بالله، دعوت الله فشفاك. رواه مسلم.
وقد روى البخاري، ومسلم عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا، أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. وفي لفظ: لَا شَافِي إِلَّا أَنْتَ.
وإذا لم يحصل الانتفاع بالرقية، فلك أن تبحث عن راق آخر، ويمكنك أن تراجع بعض الأطباء النفسيين؛ فلعل ما أصابك لا علاقة له بالحسد.
وأما عما أخذ الراقي منك: فإن كنت تعاملت بالإجارة -بأن طلبت منه أن يقرأ عليك من غير اشتراط برء-، فله الحق فيه؛ لأن الأجير يأخذ حقه، سواء حصل الانتفاع بالعمل المؤجر عليه أم لا.
وأما إن كنت اشترطت عليه حصول البرء مما تعاني منه، فهذا يكون حكمه حكم الجعالة، ولا يستحق الراقي فيه شيئًا إلا عند حصول البرء؛ قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: لَا بَأْسَ بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ; لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حِينَ رَقَى الرَّجُلَ, شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ، وَالصَّحِيحُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ هَذَا يَجُوزُ, لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لَا إجَارَةً, فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ, أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ, فَأَمَّا الْجعَالَةُ فَتَجُوزُ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ, كَرَدِّ اللُّقَطَةِ، وَالْآبِقِ, وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرُّقْيَةِ إنَّمَا كَانَ جَعَالَةً, فَيَجُوزُ هَا هُنَا مِثْلُهُ.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى: إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى شِفَاءِ الْمَرِيضِ جَازَ، كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ جُعِلَ لَهُمْ قَطِيعٌ عَلَى شِفَاءِ سَيِّدِ الْحَيِّ، فَرَقَاهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى بَرِئَ، فَأَخَذُوا الْقَطِيعَ؛ فَإِنَّ الْجُعْلَ كَانَ عَلَى الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ. انتهى.
والله أعلم.