السؤال
هل يعقل أن ابن الكاتب الصوفي كان يختم القرآن ثمان مرات في اليوم، أربعًا في النهار، وأربعًا في الليل، حيث ورد ذلك في كتاب التبيان للإمام النووي -رحمه الله-؟ ولو كان صحيحًا: فكيف يتأتى التدبر، والتفكر؟
هل يعقل أن ابن الكاتب الصوفي كان يختم القرآن ثمان مرات في اليوم، أربعًا في النهار، وأربعًا في الليل، حيث ورد ذلك في كتاب التبيان للإمام النووي -رحمه الله-؟ ولو كان صحيحًا: فكيف يتأتى التدبر، والتفكر؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر كثير من أهل العلم أشياء من جنس هذا الأثر، وبعضه بالفعل لا يعقل في العادة، إلا أن يكون على سبيل الكرامة لمن كان من أهلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خفف على داود عليه السلام القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه. رواه البخاري.
قال الطيبي في شرح المشكاة (الكاشف عن حقائق السنن)، وتبعه الكرماني في (الكواكب الدراري): دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده، كما يطوي المكان لهم، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني. اهـ.
وذكر هذا المعنى أيضًا العيني في (عمدة القاري) ثم قال: ولقد رأيت رجلًا حافظًا، قرأ ثلاث ختمات في الوتر، في كل ركعة ختمة، في ليلة القدر. اهـ.
وكذلك ذكره القسطلاني في (إرشاد الساري) ثم قال: ولقد رأيت أبا الطاهر بالقدس الشريف، سنة سبع وستين وثمانمائة، وسمعت عنه إذ ذاك أنه يقرأ فيهما أكثر من عشر ختمات، بل قال لي شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف -أدام الله النفع بعلومه- عنه: أنه كان يقرأ خمس عشرة في اليوم والليلة، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني. اهـ.
وبعض هذه الحكايات فيها مبالغة ظاهرة؛ وذلك لما ذكر الحافظ ابن حجر في حديث داود فائدة أن البركة قد تقع في الزمن اليسير، حتى يقع فيه العمل الكثير، ونقل عن النووي أن أكثر ما بلغه في ذلك من كان يقرأ أربع ختمات بالليل، وأربعًا بالنهار، قال بعد ذلك: وقد بالغ بعض الصوفية في ذلك، فادعى شيئًا مفرطًا، والعلم عند الله. اهـ.
وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): قال أبو بكر القباب: سمعت أبا الحسن بن شنبوذ، سمعت بكر بن سهل الدمياطي، يقول: هجرت -أي بكرت- يوم الجمعة، فقرأت إلى العصر ثماني ختمات. حكاه يحيى بن منده في تاريخه. اهـ.
فعلق محققه فقال: هذا غير معقول، ولا هو داخل في نطاق الجائز، فإن الحافظ مهما كان قوي الحفظ، لا يتيسر له أن يختم القرآن مرة واحدة بأقل من عشر ساعات، كما هو معلوم، أو مشاهد، فكيف يقرأ في هذه الفترة ثمان ختمات؟! اهـ.
وعلى أية حال؛ فما صح من هذه الحكايات، فمحمله -كما قدمنا- على البركة في الوقت على سبيل الكرامة، التي تجري على خلاف العادة. ومع ذلك تبقى المداومة على الختم في أقل من ثلاث ليال، مخالفًا للسنة، ولعمل أكثر السلف.
وقد أورد الحافظ ابن كثير في (فضائل القرآن) طرفًا من هذه الآثار، وصحح إسناد بعضها، وحسن بعضًا، ثم قال: ومن غريب هذا، وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، قال: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: "كان ابن الكاتب، يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات". وهذا نادر جدًّا، فهذا، وأمثاله من الصحيح عن السلف، محمول إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تَقَدَّمَ، أو أنهم كانوا يفهمون، ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
وقد وُجِّه للجنة الدائمة للإفتاء هذا السؤال: لقد قرأت في كتابه (مختصر منهاج القاصدين) بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، كان يوتر بالقرآن كله في ركعة واحدة، وأن الإمام الشافعي كان يختمه في اليوم مرتين. ولقد قرأت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لعبد الله بن عمرو بن العاص بأن يختمه في أقل من ثلاثة أيام، فما مدى صحة هذه الآثار؟
فأجابت: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يختم القرآن في أقل من سبع ليال، أو خمس، أو ثلاث. وقد اشتهر عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في أقل من ذلك، فاختلفت أنظار العلماء في توجيه هذا النهي، فقال النووي -رحمه الله-: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص، فمن كان من أهل الفهم، وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر، واستخراج المعاني، وكذا من كان له شغل بالعلم، أو غيره من مهمات الدين، ومصالح المسلمين العامة -يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. انتهى. وحمل بعض العلماء النهي على المداومة، والاستمرار في الختم في أقل من ذلك.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة، كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق، وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم. انتهى. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني