السؤال
هل يوجد ما يمنع شرعًا إعادة تشكيل القرآن الكريم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلم يتضح لنا المقصود من قولك: إعادة تشكيل القرآن الكريم ـ فإن كان قصدك تشكيله، وضبطه بغير التشكيل، والضبط الذي يضبط نطق الحروف يعرف به نوع الحركات، فإن هذا التشكيل من وضع علماء التابعين بعدما تفشى اللحن، وليس توقيفيًّا من النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في كتاب المحكم لأبي عمرو الداني: الشكل الَّذِي فِي الْكتب من عمل الْخَلِيل، وَهُوَ مَأْخُوذ من صور الْحُرُوف، فالضمة وَاو صَغِيرَة الصُّورَة فِي أَعلَى الْحَرْف؛ لِئَلَّا تَلْتَبِس بِالْوَاو الْمَكْتُوبَة، والكسرة يَاء تَحت الْحَرْف، والفتحة ألف مبطوحة فَوق الْحَرْف.
فهذا التشكيل ليس توقيفيًّا ـ كما أشرنا ـ ولكنه اجتهاد من علماء أعلام -رضوان الله عليهم- تلقته الأمة بالقبول، ووفقهم الله تعالى له، فحفظ به سلامة النطق بكتابه، فلا يجوز تغييره لما قد يفضي إليه ذلك من اللبس، ونطق القرآن على غير ما أنزل بهن، فالواجب المحافظة عليه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، كما قال العلماء.
وإن كان قصدك ترتيب سوره، وآياته على غير ما كتب عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده: فهذا ممنوع شرعًا؛ لأن القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي تكفل بحفظه، فلا يجوز أن تمتد إليه يد لتغير من ترتيبه، أو تحرف في وضعه الذي تركه عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، وقد انعقد إجماع الأمة على ذلك، كما قال غير واحد من أهل العلم، جاء في البرهان للزركشي: فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه؛ ولهذا لا يجوز تعكيسها.
وقال الزرقاني في مناهل العرفان: انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي، والاجتهاد فيه، بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معينًا لهم السورة التي تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه السورة، وكان يتلوه عليهم مرارًا وتكرارًا في صلاته، وعظاته، وفي حكمه، وأحكامه، وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به في العام الأخير مرتين، كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف، وكذلك كان كل من حفظ القرآن، أو شيئًا منه من الصحابة حفظه مرتب الآيات على هذا النمط... فليس لواحد من الصحابة، والخلفاء الراشدين يد، ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم.
وهذا الإجماع مستند على نصوص كثيرة من السنة في الصحيحين، وغيرهما، فمنها على سبيل المثال ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير: قال قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً ـ نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها، أو تدعها، والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال لماذا تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة قال يا بن أخي لا أغير شيئا من مكانه.
قال الزقاني في مناهل العرفان: فهذا حديث أبلج من الصبح في أن إثبات هذه الآية في مكانها مع نسخها توقيفي، لا يستطيع عثمان باعترافه أن يتصرف فيه؛ لأنه لا مجال للرأي في مثله.
ومنها: ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء.
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم دله على موضع تلك الآية من سورة النساء، وهي قوله سبحانه: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.. الآية، وكذلك سوره لا يجوز ترتيبها على غير ترتيب الصحابة، كما هي عليه الآن، وإن كان العلماء قد اختلفوا في ترتيبها هل هو توقيفي أو اجتهاد من الصحابة؛ لما في ذلك من التجرؤ على القرآن الكريم، وانتهاك حرمته، وقدسيته، جاء في كتاب دراسات في علوم القرآن لمحمد إسماعيل: وسواء كان ترتيب السور توقيفيًّا أم اجتهاديًّا, فإنه ينبغي احترامه، خصوصًا في كتابة المصاحف؛ لأن أقلَّ الأمرين رعاية صدوره عن الإجماع، والإجماع حجة واجبة القبول.
وترتيب القرآن في المصحف الذي بين أيدينا هو ترتيبه في اللوح المحفوظ، كما قال العلماء، جاء في كتاب البرهان للزركشي: تَرْتِيبُ السُّوَرِ هَكَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ.
وجاء في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا قاري في سياق حديثه عن جمع عثمان ـ رضي الله عنه ـ للمصحف قال: وَقَرَّرَ عثمان تَرْتِيبَ السُّوَرِ، وَالْآيَاتِ عَلَى وَفْقِ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعَرْضَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وجاء في كتاب بيان المعاني لعبد القادر ملا العاني: وضع السّور بمواضعها الموجودة الآن بالمصاحف بحسب ترتيب القرآن أمر توقيفي من قبل حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بإشارة من جبريل عليه السّلام، على نسق ما هو مدون في اللّوح المحفوظ عند الله عز وجل:
وقال الميابي في كشف العمى:
فَهْو كما هُوَ عليه مُسْتَطَرْ * في لَوْحِهِ المحفوظ نِعْمَ المسْتَطَرْ
وذاك في السُّوَرِ في القَوْلِ الأَحَقْ * والقَوْلُ في الآي عَليْهِ متَّفَقْ.
والحاصل أن تغيير تشكيل المصحف، أو ترتيبه على غير ما هو عليه الآن لا يجوز شرعًا.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني