الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولًا أن علاج الوساوس هو الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، كما أوضحناه مرارًا، وانظر الفتوى رقم: 51601.
والطمأنينة تحصل بأدنى سكون، ولا ينافيها تحرك جسمك ما دمت في حد الركوع بأن تكون يدك بحيث تمس ركبتك، وانظر لبيان حد الطمأنينة الفتوى رقم: 51722.
وأما قولك: (هل إذا سبقني الإمام بأن كان في طريقه إلى السجود وأنا في طريقي إلى الرفع، هل بذلك يكون قد سبقني بركن؟) فيقال فيه: إن الاعتدال من الركوع ركن عند أكثر العلماء؛ قال النووي: (فرع) في مذاهب العلماء في الاعتدال: قد ذكرنا أن مذهبنا: أنه ركن في الصلاة لا تصح الصلاة إلا به. وبهذا قال أحمد، وداود، وأكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود أجزأه. وعن مالك روايتان كالمذهبين، واحتج لهم بقوله تعالى: (اركعوا واسجدوا). واحتج أصحابنا بحديث المسيء صلاته، والآية الكريمة لا تعارضه، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". اهـ. من المجموع.
وعلى القول بركنيته؛ فهل يعد التخلف عن الإمام بالاعتدال تخلفًا بركن أم لا؟ فيه وجهان؛ جاء في روضة الطالبين:
وأما بيان صور التخلف بركن، فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير، فالقصير: الاعتدال عن الركوع، وكذا الجلوس بين السجدتين على الأصح. والطويل: ما عداهما.
ثم الطويل مقصود في نفسه. وفي القصير وجهان؛ أحدهما: مقصود في نفسه، وبه قال الأكثرون. ومال الإمام إلى الجزم به. والثاني: لا، بل تابع لغيره. وبه قطع في (التهذيب).
فإذا ركع الإمام، ثم ركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس هذا تخلفًا بركن، فلا تبطل به الصلاة قطعًا. فلو اعتدل الإمام، والمأموم بعد قائم، ففي بطلان صلاته وجهان، اختلفوا في مأخذهما، فقيل: مأخذهما: التردد في أن الاعتدال ركن مقصود أم لا؟ إن قلنا: مقصود. فقد فارق الإمام ركنًا، واشتغل بركن آخر مقصود، فتبطل صلاة المتخلف. وإن قلنا: غير مقصود. فهو كما لو لم يفرغ من الركوع؛ لأن الذي هو فيه تبع له، فلا تبطل صلاته.
وقيل: مأخذهما الوجهان في أن التخلف بركن يبطل أم لا؟ إن قلنا: يبطل. فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته، وإن قلنا: لا. فما دام في الاعتدال، لم يكمل الركن الثاني، فلا تبطل.
قلت: الأصح لا تبطل.
وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه، والمأموم بعد قائم، فعلى المأخذ الأول؛ لا تبطل صلاته؛ لأنه لم يشرع في ركن مقصود، وعلى الثاني؛ تبطل؛ لأن ركن الاعتدال قد تم. هكذا ذكره إمام الحرمين، والغزالي. وقياسه أن يقال: إذا ارتفع عن حد الركوع والمأموم بعد في القيام فقد حصل التخلف بركن، وإن لم يعتدل الإمام فتبطل الصلاة عند من يجعل التخلف بركن مبطلًا.
أما إذا انتهى الإمام إلى السجود، والمأموم بعد في القيام فتبطل صلاته قطعًا. ثم إذا اكتفينا بابتداء الهوي عن الاعتدال، وابتداء الارتفاع عن حد الركوع، فالتخلف بركنين: هو أن يتم للإمام ركنان، والمأموم بعد فيما قبلهما، وبركن: هو أن يتم للإمام الركن الذي سبق والمأموم بعد فيما قبله، وإن لم يكتف بذلك فللتخلف شرط آخر، وهو أن لا يلابس -مع تمامهما أو تمامه- ركنًا آخر.
ومقتضى كلام صاحب (التهذيب) ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الإمام وسجد. هذا كله في التخلف بغير عذر. اهـ.
ويتبين أيضًا من هذا النقل ضابط التخلف بالركن، وهو: إذا أتم الإمام الركن قبل أن يشرع المأموم فيه، على قول، والقول الآخر: أن يضيف إليه ملابسة الإمام للركن الذي يليه.
وأما الوسوسة: فلا تعد عذرًا في التخلف عن الإمام؛ جاء في أسنى المطالب: (فإن كان) تخلفه (لعذر كإبطاء قراءة) لعجز لا لوسوسة. اهـ.
فإذا سبقك الإمام بأن كان في طريقه إلى السجود وأنت في طريقك إلى الرفع: فلا يعد هذا تخلفًا على القول باشتراط ملابسة الإمام لركن آخر، وأما على الوجه الأول -وهو إتمام الإمام الركن قبل أن يشرع المأموم فيه-؛ فإنه يعتبر تخلفًا؛ لأن الإمام فرغ من الاعتدال قبل أن تشرع فيه.
فالحاصل: أن في صحة الصلاة بفعلك هذا خلافًا طويلًا مبنيًّا على أوجه عديدة.
فالذي ينبغي لك على كل حال هو: أن تشرع في الرفع من الركوع فور رفع الإمام، ولا تتأخر عنه استرسالًا مع هذه الوساوس.
والله أعلم.