الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما ذكره السائل لم يقل به أحد من أهل العلم: من المفسرين، أو المؤرخين، أو المؤلفين في البلدان !!! وهذا يكفي لصرفه عن دعواه، فالاتفاق حاصل على خلافه، وإنما حصل الخلاف في المراد بقول نبي الله موسى عليه السلام لبني إسرائيل: اهْبِطُوا مِصْرًا {البقرة:61}. وهم في التيه بعد خروجهم من مصر، وهلاك فرعون، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61.
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): فيه قولان:
ـ أحدهما: أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين. قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، الذي طلبوه في الأمصار.
ـ والثاني: أنه أراد البلد المسمى بمصر. وفي قراءة عبد الله، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش «مصر» بغير تنوين.
قال أبو صالح، عن ابن عباس: أراد مصر فرعون. وهذا قول أبي العالية، والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقراءة عبد الله.
قال: وسئل عنها الأعمش، فقال: هي مصر التي عليها صالح بن علي.
وقال مفضل الضبي: سميت مصراً؛ لأنها آخر حدود المشرق، وأول حدود المغرب، فهي حد بينهما. والمصر: الحد. اهـ.
وأما غير ذلك من الآيات في قصة موسى، وفي قصة يوسف ـ عليهما السلام ـ فمحل اتفاق بين أهل العلم قاطبة، أن المراد بها مصر البلد المعروف! وإلا فهل يشك السائل في المراد بمصر في قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]. فأين أنهار الطائف، وجبال زهران؟!!
وكذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } [يونس: 87] لا خلاف في كون مصر المذكورة فيه هي البلد المعروف! وإن حصل خلاف في تعيين المراد من مدن مصر تحديدا.
قال الماوردي في (النكت والعيون) وابن الجوزي في (زاد المسير): في قوله {بِمِصْرَ} قولان:
أحدهما: أنها الإسكندرية، وهو قول مجاهد.
الثاني: أنه البلد المسمى مصر، قاله الضحاك. اهـ.
وهذا لا يختلف؛ فإن الإسكندرية إحدى مدن مصر.
ولذلك قال ابن عطية في (المحرر الوجيز) لما ذكر هذا الخلاف: مصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر. اهـ.
وكذلك قصة يوسف عليه السلام، فهي في مصر اتفاقا، ويمكن مراجعة كتب التفسير، وكتب التاريخ والبلدان، عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21]. وقوله سبحانه: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] فهذه مصر البلد المعروف بلا تردد ولا ريب! ولا يحتاج أحد من أهل العلم برهانا ليدلل على ذلك، بل ذلك نفسه هو البرهان.
ولذلك لما عقد السيوطي في (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) فصلا لذكر من دخل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال: وأما يعقوب، ويوسف وإخوته فدخولهم مصر منصوص عليه في القرآن، وكذا موسى، وهارون وقد ولدا بها. اهـ.
وقال الطاهر ابن عاشور في (التحرير والتنوير): جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد، لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوة. ومصر السفلى وهي الشمالية، وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود، وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكسوس. اهـ.
وقال في موضع آخر: مدينة مصر هي (منفيس) ويقال: (منف) وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم (الهيكسوس) أي الرعاة. وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط. وكانت مدينتها (ثيبة- أو- طيبة) ، وهي اليوم خراب وموضعها يسمى الأقصر، جمع قصر؛ لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل. وكانت حكومة مصر العليا أيامئذ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده. اهـ.
ومما يمكن أن يزيل عن السائل هذا الوهم، تأمل قصة موسى وخروجه من مصر إلى مدين، ثم عودته ومروره على طور سيناء، وكلام الله تعالى له هنالك، فإن ذلك يوجهه إلى معرفة الوجهة الذي خرج منها ثم عاد إليها، فالرحلة كانت بين مصر والشام.
وراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1557، 75532، 113663.
وأما مسألة العرب العاربة، والمستعربة فراجع فيه الفتويين: 16712، 229786.
وأخيرا فإننا ننصح الأخ السائل بالانشغال بما ينفعه مما يترتب عليه عمل في الباطن أو الظاهر، في القلب أو الجوارح.
والله أعلم.