السؤال
يقال: إن أول من فتش عن الرجال والأسانيد ابن سيرين، أو شعبة بن الحجاج، فماذا كان يفعل من قبل هؤلاء الأفاضل ـ أقصد التابعين الذين نقلوا عن الصحابة قبل ابن سيرين، وشعبة ـ فكيف عرفت عدالتهم وضبطهم؟ وإن كانت العدالة متوفرة، فماذا عن ضبطهم للحديث؟ ولا يخفى عليكم أن مالكًا قد ترك من يؤتمن على بيت المال، ولكنه لا يقوى في الحديث، وهل كان ابن سيرين أو شعبة فقط هما من يفتشان وينقدان في وقتهما؟ وهل يكفي رجل أو رجلان لفعل هذا؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التثبت في المرويات نشأ في زمن الصحابة، وإنما احتيج إلى الإسناد والكلام على الرجال للحاجة إلى ضبط المرويات، والتوثق منها, وظهرت تلك الحاجة بشدة في عصر التابعين بعدما شرع أهل الأهواء في افتراء أحاديث يقوون بها ما يذهبون إليه، كما قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وإلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
وقد روي: أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ أَنْ يُمْلِيَ عَلَى بَعْضِ وَلَدِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ، فَدَعَا بِكَاتِبٍ، وَأَمْلَى عَلَيْهِ أَرْبَعُ مِائَةَ حَدِيثٍ، فَخَرَجَ الزُّهْرِيُّ مِنْ عِنْدِ هِشَامٍ، فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَهُمْ بِتِلْكَ الأَرْبَعِ مِائَةٍ، ثُمَّ لَقِيَ هِشَامًا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَقَالَ لِلزُّهْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ قَدْ ضَاعَ، قَالَ: لا عَلَيْكَ، فَدَعَا بِكَاتِبٍ، فَأَمْلاهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَابَلَ هِشَامٌ بِالْكِتَابِ الأَوَّلِ، فَمَا غَادَرَ حَرْفًا وَاحِدًا. اهـ.
وانظر الفتويين رقم: 133450، ورقم: 214414.
وقد شاع وصف شعبة بأنه أول من تكلم في الرجال، والمقصود بذلك أنه أول من أفردهم بالكلام، ووسع القول فيهم، لا أنه لم يتكلم أحد قبله، قال الحافظ ابن رجب في شرح العلل: ومنهم: شعبة بن الحجاج بن الورد: العتكي الأزدي الواسطي: يكنى أبا بسطام، سكن البصرة، وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل، واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم. انتهى.
وقال الترمذي في العلل: قال أبو عيسى -رحمه الله-: وقد عاب بعض من لا يفهم على أصحاب الحديث الكلام في الرجال: وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال منهم الحسن البصري، وطاوس قد تكلما في معبد الجهني، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب، وتكلم إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي في الحارث الأعور، وهكذا روي عن أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وسليمان التيمي، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم، أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا، فما حملهم على ذلك ـ عندنا والله أعلم ـ إلا النصيحة للمسلمين، لا نظن أنهم أرادوا الطعن على الناس، أو الغيبة، إنما أرادوا ـ عندنا ـ أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا؛ لأن بعضهم ـ من الذين ضعفوا ـ كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهمًا في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم، شفقة على الدين وتثبيتًا؛ لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق، والأموال. انتهى.
والشاهد أنه ذكر ممن تكلم في الرجال قبل شعبة ثمانية من الأئمة.
والله أعلم.