الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فجوابنا عن سؤالك يتلخص فيما يلي:
أولا: نقول ابتداء: إن مثل هذه الخلافات التي تقع بين الورثة، ينبغي رفعها إلى المحكمة الشرعية - إن كانت موجودة - أو مشافهة أهل العلم بها حتى يتم سماع جميع الأطراف، وعندها يُعلم المحق من المبطل؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه -: يَا عَلِيُّ، إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ، فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ. رواه أحمد.
فالمسائل التي فيها خصومة لا يُكتفى فيها بسماع أحد الأطراف دون الآخر، بل لا بد من سماع جميع الأطراف حتى تتبين صورة المسألة كاملة، ويفتى أو يحكم فيها على بصيرة.
ثانيًا: إذا أعطى الوالد لأحد أبنائه أرضًا ليبني عليها، ولم يصرح له بالهبة، فإن تلك الأرض تعتبر عارية تنتهي بموت الأب, فإذا مات الأب رجعت الأرض إلى الورثة, ويدفعون للابن الباني قيمة البناء قائمًا، أو منقوضًا على قولين لأهل العلم، وانظر التفصيل في الفتوى رقم: 236182، والفتوى رقم: 141887.
ثالثًا: قول الأب: إن الأرض، أو السانية البحرية للبنات، إن كان يعني بعد مماته، فهذه تعتبر وصية لوارث, وهي ممنوعة شرعًا، وليست ملزمة، وإنما يرجع أمر نفاذها، أو ردها إلى الورثة, فمن رضي منهم بإمضائها، فمضت من نصيبه، ومن لم يرض أخذ نصيبه من تلك الأرض كاملًا؛ وانظر الفتوى رقم: 121878، والفتوى رقم: 170967 عن الوصية للوارث.
وإن كان يعني في حياته، فهذه هبة، فإن مات الأب قبل أن تحوز البنات الهبة، صارت الأرض تركة تقسم بين الورثة، وانظر الفتوى رقم: 138392, والفتوى رقم: 227083 .
رابعًا: فيما يتعلق بالزيتونة، والدار التي ادعي أنها ملك لغير جدك: إن كانت الأرض، والدار مسجلة في الأوراق الرسمية للدولة باسمه، فإن من ادعى ملكًا فيهما، فإنه يطالب بإقامة البينة الشرعية على دعواه؛ إذ الأصل أنها ملك له، ولا شركة لأحد معه فيها ما دامت مسجلة باسمه؛ وقد جاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ يُعْطَى اَلنَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ, لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ, وَأَمْوَالَهُمْ, وَلَكِنِ اَلْيَمِينُ عَلَى اَلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: اَلْبَيِّنَةُ عَلَى اَلْمُدَّعِي, وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. اهــ.
قال الصنعاني في السبل: والحديث دال على أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه، بل يحتاج إلى البينة، أو تصديق المدعى عليه ...اهـ.
والبينة التي تثبت بها الأموال أقلها رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي.
جاء في المغني لابن قدامة: وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَرَجُلٍ عَدْلٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ ... وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ ثُبُوتَ الْمَالِ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِيَاسَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَالشَّافِعِيِّ. اهــ مختصرًا.
خامسًا: ما ذكرته من أن الأبناء يستغلون بعض التركة – أراضي البر – دون البنات: إن كان هذا واقعًا بإذن البنات، ومن غير أن يمنعونهن من الانتفاع، فلا إشكال.
وإن انتفعوا بها من غير إذن البنات، فإن هذا يجري فيه كلام الفقهاء في انتفاع الشريك بالأرض من غير إذن شريكه، وأنه في حكم الغاصب، وقد فصلنا أقوال الفقهاء حول هذا وما يترتب عليه في الفتوى رقم: 238465, وأيضًا الفتوى رقم: 241966 فيما لو سكت البنات مع علمهن من غير أن يعترضن هل يعتبر سكوتهن إذنًا؟ وقد ذكر الفقهاء أن الوارث إذا زرع في الأرض الموروثة بغير إذن بقية الورثة، فإن كان زرع بقدر حصته من الأرض، فلا كراء عليه.
جاء في التاج والإكليل: إذا زرع أحد الورثة قدر حظه من الأرض، لا كراء عليه؛ لأنه إنما زرع قدر حصته. اهــ.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى - عَمَّنْ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ، وَلَا أَعْلَمَهُمْ؟
فَأَجَابَ: إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّ مِنْ يَزْرَعُ فِيهَا يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مَعْلُومٌ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ نَصِيبٌ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَا زَرَعَهُ فِي مِقْدَارِ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ مُقَاسَمَةً بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهــ.
ولا شك أن المسألة تحتاج إلى قضاء شرعي، أو مشافهة أهل العلم بها - كما ذكرنا - حتى يتضح ما وقع بصورة واضحة، ومن ثم يُحكم بتغريم الأولاد لصالح البنات أم لا، وانظر الفتوى رقم: 107416 عن التعويض عن الانتفاع بالأرض المغصوبة.
والله أعلم.