السؤال
قال تعالى: "ولَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" ومن المعلوم أن الله عدل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأحاديث: "ويل للعرب من شر قد اقترب" يحذرهم من يأجوج ومأجوج، وهو يقول: العرب فقط، وكأنه لا يوجد في العالم سوى العرب، وفي الحديث أيضًا يقول: "نهلك إذا كثر الخبث" فكيف ذلك؟ وفي حديث عن بني إسرائيل أن السماء لم تمطر، فدعا سيدنا موسى اللهَ فأخبرهم بأن يتوبوا، ولم ينزل المطر، فدعا سيدنا موسى اللهَ، فأخبره أنه تبقى شخص واحد لم يتب بعد، فلما تاب أنزل الله المطر، فكيف ذلك؟ فسيدنا موسى لم يخطئ، ولما تاب الأغلبية ما عدا شخصًا واحدًا لم تمطر، فكيف لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى؛ فالله عدل؟ أفيدونى - أثابكم الله -.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما السؤال الأول: فأجاب عنه الحافظ ابن حجر بقوله في فتح الباري: إنما خص العرب بالذكر؛ لأنهم أول من دخل في الإسلام، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم. اهـ.
وقال في موضع آخر: خص العرب بذلك؛ لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم، والمراد بالشر ما وقع بعده من قتل عثمان، ثم توالت الفتن، حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة، كما وقع في الحديث الآخر: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها" وأن المخاطب بذلك العرب. اهـ.
وأما ما أشكل على السائل من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الهلاك إذا كثر الخبث، وما أشبه ذلك من عقاب العامة بذنوب الخاصة، مع أن الله تعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] فجوابه يؤخذ من كلام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، حيث قال: قول الله عز وجل: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} إنما هو في أحكام الدنيا؛ وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل، فيقتل أحدهم أخاه، أو أباه، أو ذا رحم به، فإذا لم يقدر على أحد من عصبته، ولا ذوي الرحم به، قتل رجلًا من عشيرته، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} .. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل رأى معه ابنه: "لا تجني عليه، ولا يجني عليك".
فأما عقاب الله تعالى إذا هو أتى، فيعم، وينال المسيء والمحسن، قال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} يريد: أنها تعم، فتصيب الظالم، وغيره، وقال عز وجل: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا}، وقالت أم سلمة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: "نعم، إذا كثر الخبث".اهـ.
ونقل محقق الكتاب عن الشيخ محمد بدير من تعليقه على الكتاب قوله: الإهلاك في الدنيا بالمجاورة، وشؤم الصحبة، فهذا يجري على المؤمنين والكفار، ثم يبعثون على نياتهم، كما في صحيح البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم". فإهلاك المحسن مع المسيئين في الدنيا بشؤم المجاورة ليس خاصًا بالكفار، بل هو جار على المؤمنين أيضًا. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 53330، 120438.
وقد حمل طائفة من أهل العلم هذا المعنى على حال مخصوصة، وهي التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد بوب الإمام مالك في موطئه على حديث أم سلمة بقوله: باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة. وروى بعده عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم".
قال الباجي في المنتقى: يريد ـ يعني: عمر بن عبد العزيز ـ قول الله عز وجل: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وقوله - رضي الله عنه -: "ولكن إذا عمل المنكر جهارًا.. " يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به، وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر، وتارك للنهي عنه، والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المنكر له مستضعفًا لا يقدر على شيء، فينكره بقلبه، فإن أصابه ما أصابهم، كان له بذلك كفارة، وحشر على نيته. اهـ.
ومن المقرر أن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب النجاة من العقوبات الإلهية لأهل الفساد، كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {البقرة: 251} وقال عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {الأعراف: 165} وقال سبحانه: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {هود: 116-117}
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى مثلًا بيِّنًا فقال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا. رواه البخاري.
ولمزيد الفائدة يمكن الرجوع إلى كلام الطحاوي في شرح مشكل الآثار في باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].
والله أعلم.