السؤال
أولا أنا أعلم أن السنة ثابتة بنص القرآن، وأعلم أن علماء الحديث بشتى صنوفه قد تعرضوا لأسانيدها ومحصوها تمحيصا لا يدع مجالا للشك لكن هذا التمحيص كان في العصور الأولى، أعني ألم ترو إلينا السنة وكتب الحديث، والفقه، والسيرة والعلوم الشرعية سماعا من العلماء فنقلها عنهم تلاميذهم وطلابهم وألم تدون هذه العلوم بأسانيدها إلى يومنا هذا وجيلنا هذا فلماذا لا أرى أنا وربما لقلة معرفتي من يتعرض لهذه الأسانيد بالنقد أم أن كل من روى أو روي عنه هو ثقة عدول وشيخ فقيه
أنا لا أقصد بكلامي الطعن في السنة أو الشك في ثبوتها فأنا لدي كتاب رياض الصالحين وصحيح الجامع الصغير وبعض الكتب في برنامج جوامع الكلم والتي بين تأليفها مئات السنين وآلاف الكيلو مترات ولا أجد فيها تعارضا وإنما دار هذا الشك في خاطري وشكرا لكم
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي فهمناه من السؤال هو الاستفسار عن كيفية توثيق الكتب الشرعية بعد تدوينها، وقد تناقلها الناس جيلا عن جيل ! وهذا قد سبق لنا التعرض له في الفتوى رقم: 199373. وأما أسانيد هذه الكتب وعدم التعرض لها بالنقد، فهذا واقع بالفعل في كثير من الأحيان؛ استغناءً بالوثوق من نسبة الكتاب إلى مؤلفه وصحة النسخة المعتمدة. ولا بد هنا من التنبيه على أن الوجادة الصحيحة طريقة معروفة من طرق تحمل العلم، وهي: أخذ العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة. وراجع الفتوى رقم: 60920.
وقال الدكتور صبحي الصالح في (علوم الحديث ومصطلحه): الوِجَادَةُ - حين تُفْهَمُ على وجهها الصحيح - لا يجوز الشك بقيمتها صورة من صور التحمل، فجميع ما ننقله اليوم من كتب الحديث الصحيحة ضرب من «الوِجَادَةِ» لأن حُفَّاظَ الحديث عن طريق التلقين والسماع أصبحوا نادرين جِدًّا في حياتنا الإسلامية بعد أن انتشرت الطباعة، وأضحى الرجوع إلى أمهات كتب الحديث سهلاً ميسورًا. وقد سبق أن جزم ابن الصلاح بأن مذهب وجوب العمل بالوجادة «هُوَ الَّذِي لاَ يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الرِّوَايَةِ لانْسَدَّ بَابُ الْعَمَلِ بِالمَنْقُولِ، لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ فِيهَا». وقد استدل ابن كثير للعمل بالوجادة بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلاَئِكَةُ. قَالَ: «وَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ !» وَذَكَرُوا الأَنْبِيَاءَ فَقَالَ: «وَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ؟ قَالَ: «وَكَيْفَ لاَ تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟». قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِهَا». فيؤخذ منه مدح من عمل بالكتب المتقدمة بمجرد الوجادة. وقد استحسن البُلْقِينِي هذا الاستنباط. ولم يكن الأمر محوجًا إلى هذا كله، فوجوب العمل بالوجادة لا يتوقف عليه، لأن مناط وجوبه إنما هو البلاغ، وثقة المكلف بأن ما وصل إليه علمه صحت نسبته إلى رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والحق أن تشدد السلف في بعض صور تحمل الحديث وأدائه، كالوجادة والوصية والإعلام، كان له ما يُسَوِّغُهُ في حياتهم وظروفهم، فقد كان الحديث شغلهم الشاغل، وكانوا أشد منا حاجة إلى حفظه وروايته، لضعف وسائل التدوين والكتابة لديهم، ونحن نجد لزامًا علينا أن ننشط في حفظ الحديث والتدقيق في طرق تحمله وروايته، ولكن تيسر الطباعة يقوم عنا بعبء كبير من أعباء حفظ الحديث وصيانته. اهـ.
والحاصل أن هذه الكتب يكفي أن تروى بطريق الوجادة، ورواتها فيهم المقبول وفيهم المردود، لكن لا تدعو الحاجة إلى نقد هذه الأسانيد التي رويت بها الكتب من أزمنة مؤلفيها إلى عصرنا هذا؛ لأن نسبة هذه الكتب إلى أصحابها معلومة مجزوم بها، ومدار الأحكام إنما هو على الأحاديث التي في هذه الكتب، وهذه أخذت حظها من النقد والتوثيق والتمحيص.
والله أعلم.