السؤال
هل كان ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ يعرض الحديث على عقله قبل تصحيحه؟ أم أنه كان يسلك نهج أهل السنة والجماعة؟ وهل هو من المتساهلين في التصحيح؟
هل كان ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ يعرض الحديث على عقله قبل تصحيحه؟ أم أنه كان يسلك نهج أهل السنة والجماعة؟ وهل هو من المتساهلين في التصحيح؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يعرف عن الحافظ ابن حجر ولا غيره من حفاظ أهل السنة أنهم يتوقفون في تصحيح الحديث حتى يعرضوه على عقولهم! ولم يذكر أحد منهم في شروط صحة الحديث: عرضه على العقل، أو قبول العقل له!! ولمعرفة مكانة النقل والرواية عند الحافظ ابن حجر يمكنك مراجعة كتبه، وأهمها شرح صحيح البخاري، خاصة كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة منه، وفيه باب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس, وقد ختم الحافظ ابن حجر شرحه بما نقله عن الحافظ ابن عبد البر حيث يقول: ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ، أو معارضة أثر غيره، أو إجماع، أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته، فضلًا عن أن يتخذ إمامًا، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك. اهـ.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن العقل الذي يريد البعض جعله حاكمًا على المرويات النبوية ـ لا يتفق، بل يختلف اختلافًا عظيمًا، فما يقبله عقل هذا يرده عقل ذاك، وقد يستحسن هذا ما يكون قبيحًا عند غيره، قال المستشار سالم البهنساوي في كتابه السنة المفترى عليها في رده على عز الدين بليق في كتابه: موازين القرآن والسنة للأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة: ما العقل الذي يريد الكاتب أن يجعله حاكمًا على الأحاديث النبوية؟! فوسيلته في المعرفة هي الحواس الخمس, أو المعلومات السابقة، والأحاديث النبوية لا تقضي أمورًا تخضع للحواس الخمس، أو لمعلومات الإنسان السابقة، فأكثرها أحكام من الله تعالى عن الحلال والحرام، أو الجنة، أو النار، أو الإخبار عن شيء لا يتصل بمعرفة الإنسان، وبالتالي لا يختص العقل بالحكم على هذه الأحاديث بالصحة، أو البطلان؛ لأنها تخرج عن اختصاص العقل، فقد ظن بعض الناس تعارض القرآن مع بعض النظريات العلمية, وبعد ذلك تغيرت النظريات, وكشف العلم صدق ما ورد في القرآن الكريم.
الحديث والنص القرآني كلاهما من عند الله, ويخرجان من مشكاة واحدة، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {النساء: 82}. اهـ.
ومع ذلك فإنه يجدر التنبيه على أن المحدثين قد ذكروا قواعد كلية لمعرفة الحديث المكذوب، ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح حيث قال: منها: جعل الأصوليين من دلائل الوضع أن يخالف العقل, ولا يقبل تأويلًا؛ لأنه لا يجوز أن يرد الشرع بما ينافي مقتضى العقل، وقد حكى الخطيب هذا في أول كتابه الكفاية تبعًا للقاضي أبي بكر الباقلاني وأقره، فإنه قسم الأخبار إلى ثلاثة أقسام:
1ـ ما يعرف صحته.
2ـ وما يعلم فساده.
3ـ وما يتردد بينهما.
ومثل للثاني بما تدفع العقول صحته بموضوعها, والأدلة المنصوصة فيها نحو الإخبار عن قدم الأجسام, وما أشبه ذلك, ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة, كالخبر عن الجميع بين الضدين, وقول الإنسان: أنا الآن طائر في الهواء، أو أن مكة لا وجود لها في الخارج. اهـ.
وهذا القيد الذي ذكره الحافظ في ما يُرَدُّ من المرويات لمخالفة العقل قيد ضروي، وهو قوله: لا يقبل تأويلًا ـ ومن ذلك ما رواه ابن الجوزي في الموضوعات من أن الله خلق خيلًا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق! فهذا لا يحتاج إلى نقد سنده فمخالفته للعقل صارخة؛ ولذلك قال ابن الجوزي بعده: مثل هذا الحديث لا يحتاج إلى اعتبار رواته؛ لأن المستحيل لو صدر عن الثقات رد ونسب إليهم الخطأ، ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجمل قد دخل في سم الخياط لما نفعنا ثقتهم, ولا أثرت في خبرهم؛ لأنهم أخبروا بمستحيل، فكل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره. اهـ.
وقال الدكتور محمد أبو زهو في كتاب الحديث والمحدثون: وضع علماء الإسلام وجهابذة هذه الفنون قواعد لا تكاد تخطئ في الدلالة على وضع الحديث ... ومن أدلة وضع الحديث أن يكون مخالفًا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل، أو مخالفًا للمحس المشاهد. اهـ.
وأخيرًا، فإننا نقرر أن المخالفة بين العقل والرواية لا تقع إلا لفساد في العقل، أو لضعف في الرواية، وأما الروايات الصحيحة فلا يمكن أن تتعارض مع العقول الصريحة، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 20458، 39932، 26538، 206311.
وراجع للفائدة كتاب نقض أصول العقلانيين للشيخ سليمان بن صالح الخراشي.
وأما مسألة الحكم على الحافظ ابن حجر بالتساهل في التصحيح: فهذا أمر نسبي، فكل من تشدد في حدِّ قبول الرواية رأى من دونه تساهل في ذلك! وللباحث سامر ناجح سمارة رسالة ماجستير بعنوان: تخريج الأحاديث الواردة في كتاب فتح الباري، قال في ملخص ما خلص إليه من بحثه: تبين أن منهج ابن حجر في الحكم على الأحاديث كان فيه شيء من التساهل. اهـ.
وقال محمد خلف سلامة في بحثه: التقريب لمعالم منهج ابن حجر ـ ابن حجر يتساهل أحيانًا في تصحيح الأحاديث الحسنة, وأحيانًا في تحسين الأحاديث الضعيفة، وأحيانًا في تقوية الأحاديث الواهية بكثرة طرقها، وهو كثيرًا ما يتسهل ويمرض القول عندما يحكم على الأحاديث الباطلة والموضوعة والشديدة النكارة، فيكتفي بنحو كلمة: ضعيف جدًّا ـ وإليك بعض التفصيل والبيان: قال صاحب إتحاف النبيل: وأما ابن حجر من جهة تصحيح الأحاديث والكلام عليها: فهو إلى التساهل أقرب، وقد بان لي هذا جليًا عند تحقيقي للفتح .. هذا، ومما ينبغي التنبه له أن ما كان عند ابن حجر من تساهل في التحسين فذلك وصف لا ينفرد به ابن حجر، بل يشاركه فيه أغلب المتأخرين، أشار إلى هذا المسلك عند المتأخرين، بل صرح به المعلمي اليماني ـ رحمه الله تعالى ـ في الأنوار الكاشفة. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني