الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم إذا نصحه ناصح بحب آل البيت والاستفادة من علمهم فينبغي له أن يقبل النصيحة وذلك لما جاء في النصوص من الحض على حبهم وإكرامهم، وموالاتهم، ونصرتهم، والاهتداء بهديهم، والاقتداء بسيرتهم، والصلاة عليهم في التشهد الأخير من الصلوات، وعلى الاستفادة مما ثبت بالسند الصحيح مما نقلوه لنا من الشرع، وأما التمسك بهم فهو مطلب شرعي؛ لما رواه الترمذي وصححه الألباني عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم.
والمراد بالتمسك بالعترة هو الاقتداء والاهتداء بهدي علماء آل البيت، وأما من لم يكن عالما ملتزما بالشرع فلا يقتدى به، كما أنه لا يقتدى بهم فيما لم يصح عنهم مما اختلقه عليهم المختلقون، فقد قال الإمام المناوي في فيض القدير في شرح قوله: وعترتي ـ يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدي عترتي واقتديتم بسيرتهم اهتديتم فلم تضلوا.
وقال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها... قال الحكيم: والمراد بعترته هنا: العلماء العاملون، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أما نحو جاهل وعالم مخلط، فأجنبي من هذا المقام، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائنا ما كان. انتهى.
وقد درج أهل العلم من أهل السنة قديما وحديثا على حب الآل وذكر فضلهم والأخذ عنهم والرواية عنهم دون غلو فيهم ولا كذب عليهم، فإن أهل السنة ينصون في كتب العقيدة المطولة والمختصرة وكتب الفقه وشروح الحديث على ذلك، كما بوبوا في كتب الحديث في أبواب الفضائل على فضلهم وبيان عظيم مكانتهم، وأن ذلك دين يدان الله تعالى به، ومن طالع الاستذكار والمغني والمجموع سيجد فقهاء المذاهب يذكرون المرويات والفتاوى التي رويت عن ابن عباس وعلي والحسن وجعفر الصادق وأبوه محمد بن علي الباقر، ومن طالع كتب الحديث سيجد في صحيح الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الفضائل أبوابا للحديث عن مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكر فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ومناقب جعفر بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والحسن والحسين ـ رضي الله عن الجميع ـ وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية لما أراد أن يبين أصول معتقد أهل السنة في كتابه: العقيدة الواسطية، تجده يقول فيها: ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي ـ وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ـ وقال: إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. اهـ.
وأخذ منه هذا النص صديق حسن خان فجعله في كتابه: قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ومن المهم كذلك التنبيه على ما كان من عمل السلف من آل البيت وغيرهم من اعتراف بعضهم لبعض بالفضل، فقد كان أهل البيت يجلون الخلفاء الراشدين، كما كان الخلفاء يجلون الآل، فقد راعى أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ذلك حق المراعاة، كما عرف علي وبنوه ـ رضي الله عنهم ـ للشيخين رضي الله عنهما فضلهما، فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: ارقبوا محمدا في أهل بيته. رواه البخاري.
وقال أيضا: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي. رواه البخاري.
وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر....
وفي صحيح مسلم: أن عليا ترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك, وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك, وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر, وخرجت أنا وأبو بكر وعمر.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني وغيرهما عن أبي جحيفة قال: خطبنا علي ـ رضي الله عنه ـ فقال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها وبعد أبي بكر ـ رضي الله عنه؟ فقال: عمر... اهـ. والرواية عنه بهذا حسنها الأرناؤوط والألباني...
وقد ذكر أصحاب السير أن عليا ـ رضي الله عنه ـ سمى بعض أولاده باسم أبي بكر وعمر، وقد عد زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم من يتنقص الشيخين من المستهزئين بالدين وطردهم من مجلسه، فقد قال الزبير بن بكار: ثنا عبد الله بن إبراهيم بن قدامة اللخمي عن أبيه عن جده عن محمد بن علي عن أبيه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما, ثم ابتدؤوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا, قال: فأنتم من الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قالوا: لا, فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا هؤلاء, وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا..{الحشر :11} فقوموا لا بارك الله فيكم ولا قرب دوركم أنتم مستهزئون بالإسلام ولستم من أهله. اهـ.
وقد نقل أهل السنة العلم عن الإمام جعفر بن محمد، وقد روى عنه كبار علمائهم منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهم، وكان هو وأبوه يقران إمامة أبي بكر وعمر ويتبرآن ممن تبرأ منهما، فقد نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة قال: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقال: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى.
وروى إسحاق الأزرق عن بسام الصيرفي قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. انتهى.
وقال الذهبي أيضاً: كتب إلى عبد المنعم بن يحيى الزهري وطائفة قالوا: أنبأنا داود بن أحمد أنبأنا محمد بن عمر القاضي أنبأنا عبد الصمد بن علي أنبأنا أبو الحسن الدارقطني حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي حدثنا محمد بن الحسين الحنيني حدثنا مخلد بن أبي قريش الطحان حدثنا عبد الجبار بن العباس الهمداني أن جعفر بن محمد أتاهم وهم يريدون أن يرتحلوا من المدينة فقال: إنكم إن شاء الله من صالحي أهل مصركم فأبلغوهم عني: من زعم أني إمام معصوم مفترض الطاعة فأنا منه بريء، ومن زعم أني أبرأ من أبي بكر وعمر فأنا منه بريء.
وقد نقل الذهبي عن أبي حازم المدني قوله: ما رأيت هاشميا أفقه من علي بن الحسين، سمعته وقد سئل كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشار بيده إلى القبر ثم قال: لمنزلتهما منه الساعة.
ونقل عن حسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وسئل عن أفقه من رأيت؟ قال: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد....
ونقل عن يحيى بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى أبي فقال: أخبرني عن أبي بكر، قال: عن الصديق تسأل؟ قال: وتسميه الصديق، قال: ثكلتك أمك قد سماه صديقا من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمه صديقا فلا صدق الله قوله، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما فما كان من أمر ففي عنقي. اهـ.
وأما سؤالك عما إذا كان يجب الرد عليه: فجوابه أنه لا يطلب، لأن ما قاله صواب ولا يخفى أنه إن كان في كلامه ما جانب الصواب فمن إنكار المنكر الواجب أن يرد عليه من عنده علم بالصواب، وأما الجاهل فلا يجب عليه ذلك، بل ينبغي له البعد عن مجادلة أهل البدع لئلا تنطلي عليه شبههم ويتأثر ببدعهم، وعليه أن يشتغل بتعلم العلم الشرعي حتى يعرف الحق ويعمل به. وراجعي في تخريج الحديث المذكور في السؤال وبيان حرص أهل السنة على تقدير آل النبي صلى الله عليه وسلم والحض على القيام بحقوقهم وفي بيان السنة والحض على العمل بها الفتاوى التالية أرقامها: 51824، 58248، 68130، 80676، 18311، 68074، 32750، 71129، 62536، 32621، 67444، 38419، 22422، 4049.
والله أعلم.