السؤال
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه، فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. انتهى.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ هَذَا كَمَا تَقُولُ لَكَأَنَّمَا تُسِفِّهُمُ الْمَلُّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ ـ والسؤال: كيف نجمع بين إجماع العلماء وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الحديث محمول على استحباب صلة الرحم المؤذية لا وجوب صلتها؟ أم أن هناك فرق بين الأذى والضرر؟ فإن كان هناك فرق فأرجو ذكره وضرب الأمثلة له وذكر الحد الفاصل بينهما لتتضح الصورة وخاصة الفرق بين الضرر الدنيوي من الأقارب والأذى الدنيوي منهم وخاصة الصالحين منهم؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواز هجر القريب الفاسق بسبب فسقه ونحو ذلك ثابت، وذلك لأن النصوص الدالة على جواز هجر الفاسق لم تفرق بين قريب وغريب، بل قد جاءت بعض النصوص الدالة على الجواز، ففي صحيح مسلم: أن قريباً لعبد الله بن مغفل خَذَف فنهاه فقـال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الْخَذْف وقال: إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله نهى عنه ثم عُدْتَ تخذف لا أكَلِّمك أبداً.
قال النووي معلقا: في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق ومُنَابِذِي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مِمَّا يؤيده مع نظائر له كحديثِ كعب بن مالك وغيره. انتهى.
وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بوجوب الصلة، فقد يكون المقصود تأكيد الاستحباب، وقد سبقت لنا فتاوى في جواز هجر القريب وأنها تدور مع المصلحة نحيلك منها على الرقم: 132999.
والفرق بين الضرر والأذى ـ والله أعلم ـ أن الأذى هو الضرر اليسير، قال ابن عطية: قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ـ معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة.
وقال القرطبي: وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرًّا يَسِيرًا. اهـ.
ولكن لا يلزم أن يكون هذا التفريق الثابت هنا ثابتا أيضا في لفظي المضرة والأذى المذكور في كلام ابن عبد البر.
والله أعلم.