الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحكم بالجنة أو النار ليست إلى أحد من البشر، فلا يحكم فيهما إلا مالكهما سبحانه وتعالى، ونحن المسلمين مأمورون بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء، لا تختص بأمة دون أمة، ولا يختلف فيها أهل الحق والحكمة من أي ملة، قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {آل عمران: 64}.
ولا يخفى على ذي بصيرة أنه لا يرد مثل هذه الدعوة إلا جاحد للحق، معرض عن الهداية، وما عسى أن يكون مصير من يردُّ ذلك ويأبى إلا أن يشرك بالله تعالى؟!! ويتوجه أيضا هذا السؤال في حق من ينكر بعض رسالات الله ويكفر ببعض رسله!!
ومن تدبر ذلك، وكان من أهل العقل والحكمة، أدرك أن الحد الأدني الذي لا يمكن أن تُنال جنة الله تعالى إلا به: هو الإيمان الحق بالله تعالى ورسله، وذلك يستلزم توحيده وإفراده بالعبادة، والإيمان بجميع الكتب وبجميع أنبيائه ورسله، وخاتمهم محمد صلى الله عليهم جميعا وسلم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا { النساء:150ـ 152}.
وهذا وصف المؤمنين بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ { البقرة: 285}.
وأما أهل الكتاب: فلا يؤمنون بكل الرسل والرسالات، فاليهود يكفرون بعيسى وبالإنجيل، ويكفرون بمحمد وبالقرآن، والنصارى يكفرون بمحمد وبالقرآن .. هذا مع إشراكهم بالله تعالى، وادعاء أن له زوجة وولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا من أقبح الكفر وأعظم الشرك، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا {مريم: 88ـ 93}.
والمقصود بهذا أن نمهد للقطع بأن النار هي الجزاء العادل لمن أشرك بالله وكفر ببعض رسله ورسالاته، ولو افترضنا جدلا أن نبيا من الأنبياء أشرك، أو كفر بأحد إخوانه من الأنبياء، لحبط عمله ولقي مصيره، فما بالنا بغيرهم من الناس، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { الزمر: 65}.
وقال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران: 81ـ85}.
ومن يستشكل مصير من مات على النصرانية وأنه من أهل النار، فنحن ندعوه إلى تدبر هذه الآيات الكريمات، قال عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ { المائدة: 72ـ 77}.
قال السعدي: يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ـ بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ـ فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ـ أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ـ وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له ـ وهو العبادة الخالصة ـ لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ـ ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ـ وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ـ وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى رادا عليهم وعلى أشباههم: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ـ متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه، فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم توعدهم بقوله: وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ـ ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ـ أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه: وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ـ عن ما صدر منهم: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات، وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ـ ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ـ أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية: وَأُمَّهُ ـ مريم: صِدِّيقَةٌ ـ أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء، والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين والعمل الصالح، وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا، وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ـ فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ـ دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد، ولما بين تعالى البرهان قال: انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ـ الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم. اهـ.
وأخيرا: ننبه على أن الرحمة النافعة بالنصارى وغيرهم من أهل الملل الأخرى، إنما تكون بدعوتهم إلى الله والدخول في الإسلام، وتعريفهم أن ذلك يتعلق بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة، فليست المسألة مسألة هزل، بل هي تتعلق بمصير المرء وسعادته أو تعاسته الأبدية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا {النساء:47ـ48}.
وقال سبحانه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا {النساء:115ـ 116}.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين رقم: 5750، ورقم: 58035.
والله أعلم.