السؤال
قرأت في كتاب الإمارة في شرح مسلم للنووي أن طاعة الأمير واجبة فتبادر إلى ذهني سؤال وهو إذا كان الأمير في المعركة مثلا وأمر بشيء وتبين أن هذا الشيء أخطأ فيه الأمير ونفذه الجنود، فهل يأثمون لأنه أيضا يقال إن الأمير في الحرب مثلا لا يجب أن يقال له مادليلك ولماذا تفعل هذا؟ وإنما التنفيذ مباشرة، طبعا ما لم يأمر بمعصية معلومة اضطرارا من الدين لكني أسأل عن أخطاء قد تترتب مثلا عليها كفارات، فهل كل الجند يقع في الكفارة بسببه إذا أخطأ؟ ولماذا لم يدفع خالد بن الوليد الدية عندما قتل خطئا الذين قالوا صبونا وكذلك في حديث أسامة بن زيد وكذلك الخوارج لم يدفعوا الدية، فهل لأنهم كلهم متأولون؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال النووي في باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية: أجمع العلماء على وجوب طاعة الولاة في غير معصية وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون. اهـ.
فينبغي طاعة الأمير في ما لا تعلم حرمته حتى ولو كان قوله مرجوحا، طالما أنه في دائرة الاجتهاد المقبول، ومن ذلك صلاة ابن مسعود خلف عثمان أربعا رغم قوله: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها، ثم تفرقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر. رواه أبو داود وصححه الألباني.
ولذلك سبق لنا التنبيه على أنه لا يجوز تفريق جماعة المسلمين في ما يقبل التعدد كمسائل الاجتهاد، فراجع الفتوى رقم: 43417.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم أو غيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك. اهـ.
وإذا تبين خطأ الأمير ومخالفته لأمر الله فلا تجوز متابعته، ومع ذلك فلا إثم عليه إن كان منشأ هذا الخطأ عن اجتهاد سائغ، وعندئذ فالواجب أن يُبيَّن له الخطأ وتُبذل له النصيحة، قال شيخ الإسلام: مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ، والواحد من العلماء والأمراء ليس معصوما، ولهذا يسوغ، بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء. اهـ.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته: وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي لا يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين والحكمة والموعظة الحسنة، قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ـ وقد حض رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إسداء النصح والمجاهرة بقول الحق، فقال: أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر ـ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ـ فإن لم ينتصح وجب الصبر، لقوله عليه السلام: من رأى من أميره شيئاً، فكره فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً، فيموت إلا مات ميتة جاهلية ـ ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف ـ لا طاعة لمن لم يطع الله. اهـ.
وهذا ما فعله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فروى البخاري في باب: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، عن ابن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين به، وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا: أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك، خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله. اهـ ملخصا.
والذي يظهر أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود.
وقال ابن بطال في شرح البخاري: يدل تبرؤه صلى الله عليه وسلم من قتل خالد للذين قالوا: صبأنا، أن قتله لهم حكم منه بغير الحق، لأن الله يعلم الألسنة كلها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذره النبى صلى الله عليه وسلم بالتأويل، إذ كل متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم، واختلفوا فى ضمان خطأ الحاكم، فقالت طائفة: إذا أخطأ الحاكم في حكمه في قتل أو جراح فدية ذلك في بيت المال، هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقالت طائفة: هو على عاقلة الإمام والحاكم، وهذا قول الأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي. اهـ.
وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة: أنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة، كسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان، وقد قال تعالى: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ـ ثم أرسل عليا، وأرسل معه مالا، فأعطاهم نصف الديات، وضمن لهم ما تلف حتى ميلغة الكلب، ودفع إليهم ما بقي احتياطا لئلا يكون بقي شيء لم يعلم به. اهـ.
وبهذا يتبين للأخ السائل ما يتعلق بالدية في قصة خالد ـ رضي الله عنه ـ وأما قصة أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ فقال الخطابي في معالم السنن: فيه أنه لم يُلزمه مع إنكاره عليه الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذا من القتل لا مصدقا به فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية، إذ كان في الأصل مأمورا بقتاله، والخطأ عن المجتهد موضوع. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم: إن قيل: إذا استحال أن يكون قتل أسامة لذلك الرجل عمدا لما ذكرتم وثبت أنه خطأ، فلم لم يلزمه الكفارة، والعاقلة الدية؟ فالجواب أن ذلك مسكوت عنه، وغير منقول شيء منه في الحديث ولا في شيء من طرقه، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم بلزوم ذلك على أسامة وعاقلته ولم ينقل، وفيه بعد، إذ لو وقع شيء من ذلك لنقل في طريق من الطرق، مع أن العادة تقتضي التحدث بذلك والإشاعة، ويحتمل أن يقال: إن ذلك كان قبل نزول حكم الكفارة والدية، والله أعلم اهـ.
والله أعلم.