السؤال
السؤال عن جواز نشر مثل هذه المواضيع: هل لو ترشح النبي صلى الله عليه وسلم وسأل الرئاسة سترشحه؟ سألني شاب سلفي بإلحاح: لو عاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم للحياة، فهل تنتخبه رئيساً للجمهورية؟ توقع الفتى بسؤاله أن تنهار صلابتي في رفض الدولة الدينية ـ مسيحية أو إسلامية ـ وأن أعترف بالنبي صلى الله عليه وسلم حاكماً، ومن ثم أن يشغل رجل الدين منصب رئيس الدولة والوزير وعضو البرلمان، قلت له بثقة: لا!! لن أفعل!! وقبل أن يفتي الشاب بخروجي من الملة، استدركت موضحاً أنني أربأ بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موظفاً يتلقى راتبه من جيبي، ويخضع للنقد والمراقبة والمحاسبة، بل المحاكمة، فالأنبياء ورجال الدين هم دعاة خير وصلاح، نتعلم ونستلهم منهم فقط، أما مناصب الدولة فتحتاج لموظفين أكفاء وأمناء، لا أكثر ولا أقل، الإسلام لا يخول الحاكمية لله ومن يعملون بسلطته فقط، الله منح عباده حق الحكم والتصرف في الأرض، كما فوّض الأمة في سلطة اختيار الحاكم ومراقبته.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز نشر هذا الكلام وتداوله إلا بقصد التنبيه على فساده وبطلانه، وحاصل الشبهة التي يثيرها هذا الحوار المفتعل أنه لا يجوز خلط الدين بالسياسة، وأن تصدي رجال الدين لأمور الحكم يحط من قدرهم وينتقص من رتبتهم، وأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن السياسة والحكم حرصا على قداسته وإبقاء على حرمته زعموا، وهذا تمويه ومحاولة لإظهار الباطل الصراح في صورة الحق، ولا يروج هذا الهذيان إلا على ضعاف العقول أو من قل نصيبه من العلم والفهم، وما أشبه هذا المنطق المظلم الذي يسعى هؤلاء إلى ترويجه بمنطق بعض مشركي العرب وقد دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فامتنع عن إجابته وتكليمه بحجة أنه لو كان نبيا فهو أعظم رتبة من أن يكلمه من هو مثله!! والواجب على كل مسلم أن يعلم أن الله تعالى بعث رسوله لإقامة دينه في الأرض، وأمره أن يحكم بشرعه بين الناس فقام بذلك أتم قيام، قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله { النساء:105}. وقال تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله {المائدة:49}.
وهذه المهمة من أشرف المهام وأعلاها رتبة، ولذا تولاها خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأمثلهم من بعده، فقاموا بهذا الأمر على وجهه، وحكموا عباد الله بشرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يكن حكمهم بين الناس انتقاصا لقدرهم، بل كان زيادة في شرفهم فضلا عما اشتمل عليه من المصلحة العامة، وزعم هذا الزاعم أن الله لم يتفرد بالحكم منابذة صريحة للقرآن، قال الله تعالى: إن الحكم إلا لله{ يوسف:40}. وقال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله {الشورى:10}.
والحكم بما شرعه الله لعباده على ألسنة رسله هو ما يقتضيه العقل السليم، فإن خالق الخلق أعلم بما يصلحهم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير{ الملك:14}
فالعدول عن شرعه إلى ما تقتضيه العقول القاصرة مخالف لما يقتضيه العقل فضلا عن مخالفته للنصوص، والواقع شاهد بأن الحاكم كلما كان قريبا من العلم بالشرع وتطبيق أحكامه كان ذلك أنفع للرعية وأوفر لأمنهم وأدعى لانتشار العدل فيهم، ومن استنطق التاريخ أخبره الخبر، ووضع الدولة الدينية الإسلامية والمسيحية في قرن مغالطة مفضوحة، مراد صاحبها أن يعود بمساوئ الدولة الدينية المسيحية التي جعلت للقساوسة حق التشريع وحرمت الاعتراض عليهم على محاسن الدولة الدينية الإسلامية التي للحاكم فيها حقوق وعليه واجبات، وقد قام المسلمون في أزهى عصورهم بعملية الرقابة تلك، وقوموا الحكام وناصحوهم لما استقر في نفوسهم من أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وأن مناصحتهم من الواجب الذي افترضه الله على عباده، وقد قال رجل لعمر ـ رضي الله عنه: اتق الله ـ فقال له: لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم.
وما خبر رجوعه ـ رضي الله عنه ـ لقول امرأة أصابت وأخطأ بخاف على أحد، فليس الحاكم في الدولة الإسلامية ظلا لله في الأرض بحيث لا يناقش ما حكم به ولا يعارض فيما قرره، بل إنما عرف هذا المعنى للحكام غير المسلمين من الأمم، وعلى كل فتتبع مخازي هذا الكلام وسقطاته ومنابذته للنصوص ومجانبته للحقيقة مما يطول جدا، والعاقل تكفيه الإشارة، وبالجملة فنشر هذا الكلام دون تنبيه على ما اشتمل عليه من الغلط والتلبيس من أعظم المنكر وأكبر الإثم.
والله أعلم.