الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قتلت أباها دفاعا عن أمها وتريد أن تتوب

السؤال

بنت قامت بقتل والدها للدفاع عن أمها وتريد أن تتوب إلى الله تعالى، فهل تقوم بوضع هبة لنصيبها الإرثي في عقار الوالد لباقي الورثة؟ مع العلم أن الأب ترك منزلاً ما زال يقطن فيه بقية الأسرة جميعاً، وماذا تفعل بالمعاش الذي تتقاضاه منذ وفاة والدها؟ أرجو منكم الإجابة في أقرب وقت، وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، وأمره يكون أعظم وعقوبته أشد إذا كان من ولد لوالده ويترتب على ذلك استحقاق العقوبة في الدنيا بالقتل قصاصا إذا لم يعف أولياء الدم، والوعيد بالعذاب الشديد في الآخرة، كما في قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {النساء:93}.

ومن ذلك أيضا وجوب الكفارة وكذلك الدية من مال القاتل إذا لم يعف أولياء الدم.

ومن ذلك أيضا حرمانه من الإرث في المال والدية، كما سبق بيانه في الفتويين رقم: 123366، ورقم: 10808.

وأما إن كان القتل بحق، كأن يصول الوالد على ولده ليقتله، ولا يجد الابن وسيلة لدفعه إلا بقتله فلا حرج عليه حينئذ، قال الزيلعي في تبيين الحقائق: ألا ترى أن له ـ يعني الولد ـ أن يدفعه ـ يعني الوالد ـ بقتله إذا شهر عليه السيف ولم يمكنه دفعه إلا بالقتل. انتهى.

وقال الموصلي في الاختيار لتعليل المختار: ولا يحبس والد في دين ولده إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه، لأن في ترك الإنفاق عليه هلاكه، كما لو صال الأب على الولد فللولد دفعه بالقتل. انتهى.

وقال الشيرازي في المهذب: يكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم كما يكره في قتال الكفار، فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال. انتهى.

وراجع في ذلك الفتوى رقم: 62692.

وكذلك الحكم إن صال على زوجته ليقتلها ظلما، ولم يجد ولدهما وسيلة لدفعه عنها إلا بقتله، فهذا من القتل المأذون فيه، قال النووي في المنهاج: الدفع عن غيره كهو عن نفسه، وقيل يجب قطعا. انتهى.

وقال الجصاص في أحكام القرآن: اقتضت الآية - يعني قوله تعالى: فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ - قتل من قصد قتل غيره بغير حق، وقال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ـ فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا، لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله، وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره، لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل، وقال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ـ فأمر بالقتال لنفي الفتنة، ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق، ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل، وأن على الناس كلهم أن يقتلوه، قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ـ فكان في مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض، ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة، فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه. انتهى.

وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 43310.

ومما يدل على حكم الولد مع والده خاصة، ما نص عليه طائفة من أهل العلم من أن الولد لا يحرم عليه قصد قتل أبيه الباغي، وأنه إن فعل ورثه، قال خليل في مختصره: وكره للرجل قتل أبيه، وورثه. انتهى.

قال الدردير: لأنه وإن كان عمداً، لكنه غير عدوان. انتهى.

قال ابن قدامة في المغني: ذكر القاضي أنه لا يكره للعادل قتل ذي رحمه الباغي، لأنه قتل بحق فأشبه إقامة الحد عليه، وكرهت طائفة من أهل العلم القصد إلى ذلك، وهو أصح ـ إن شاء الله تعالى ـ لقول الله تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ـ فإن قتله فهل يرثه؟ على روايتين، إحداهما: يرثه، هذا قول أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، لأنه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في الحج. انتهى.

والجامع بين الباغي والصائل أن المطلوب دفع شرهما بالأخف فالأخف، قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم، كدفع الصائل دون قتلهم. انتهى.

وبهذا يعلم أن دفع الصائل يجب أن يكون بالأخف فالأخف فلا يجوز قتله إن كان يندفع بما دون ذلك، وراجعي في ذلك الفتويين رقم: 112762، ورقم: 80226.

ومما يدل على ذلك أيضاً القياس على جواز دفع صيلان الوالد بضربه إذا تعين وسيلة لدفعه، بجامع كون كل من القتل والضرب من الاعتداء المحرم في الأصل، قال الشيخ العثيمين: إن عمله مع أبيه في سبيل تخليص أمه لا شيء فيه، ولكن إن كان يمكنه تخليصها دون ضرب أبيه فليس له أن يضربه، لأن منع أبيه من ضرب أمه من باب دفع الصائل، فيرد بالأسهل فإن أمكن دون ضرب كان الضرب لا حاجة له، وإن لم يمكن إلا به فلا مفر منه. انتهى.

وقال الشيخ المنجد: لو رأى أباه يضرب أمه هل يتدخل أم لا؟ نقول: يتدخل، وإن كان قد يستعمل القوة مع أبيه لكن يبدأ يدفع بالأسهل فالأسهل، ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة. انتهى.

وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 57714.

والقتل في هذه الحالة لا يمنع الميراث على الراجح، قال ابن قدامة في المغني: القتل المانع من الإرث هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقود، أو دية، أو كفارة، كالعمد وشبه العمد والخطأ وما جرى مجرى الخطأ كالقتل بالسبب وقتل الصبي والمجنون والنائم وما ليس بمضمون بشيء مما ذكرنا لم يمنع الميراث، كالقتل قصاصاً أو حداً، أو دفعاً عن نفسه وقتل العادل الباغي. انتهى.

فعلى هذه البنت أن تنظر في حالها وحال والديها عند قتل الوالد، لتعرف حكمها سواء من ناحية الإثم، أو من ناحية الأثر كالدية والكفارة، أو ناحية الحقوق المالية كالإرث، وعلى افتراض أن قتلها لوالدها كان بحق، وأنها تستحق نصيبها من الإرث فلا يجب عليها أن تهبه لبقية الورثة، وأما مسألة راتب المعاش فراجعي فيها الفتوى رقم: 1809.

وهنا لا بد من التنبيه على أن التوبة في ما بين العبد وربه بابها مفتوح على أية حال، حتى في قتل العمد ، وراجعي الفتوى رقم: 65219.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني