السؤال
أرجو شرحا لقاعدة ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال مع بعض الأمثلة؟ وشكراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه قاعدة تروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط منها الاستدلال، ولعل مراده ما إذا استوت الاحتمالات في الألفاظ الشرعية لأن اللفظ يصير مجملاً أو يراد به الوقائع الفعلية التي تحتمل التخصيص.
وبهذا يعلم أن الإجمال المرجوح لا يؤثر، إنما يؤثر المساوي أو الراجح، فلا يصح أن يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال إليه؛ لأنه لو فتح باب الاحتمال لم يبق شيء من الأدلة إلا وسقط الاستدلال به بدعوى تطرق الاحتمال إليه، وقد قال الشافعي أيضاً: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. ويحسن بها الاستدلال. وقال الهيتمي في فتاواه: قال الشافعي -رضي الله تعالى عنه- وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال نزلها منزلة العموم في المقال، ولا يعارضه قاعدته الأخرى أنه إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال، لأن هذه في الوقائع الفعلية وتلك في الوقائع القولية. انتهى.
وقال القرافي في كتابه (أنوار البروق في أنواع الفروق): الفرق الحادي والسبعون الفرق بين قاعدة حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال، وبين قاعدة حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال تقوم مقام العموم في المقال ويحسن بها الاستدلال. هذا موضع نقل عن الشافعي فيه هذان الأمران على هذه الصورة واختلفت أجوبة الفضلاء في ذلك. فمنهم من يقول هذا مشكل. ومنهم من يقول هما قولان للشافعي. والذي ظهر لي أنهما ليستا قاعدة واحدة فيها قولان، بل هما قاعدتان متباينتان ولم يختلف قول الشافعي ولا تناقض وتحرير الفرق بينهما ينبني على قواعد: القاعدة الأولى: أن الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ وإلا لسقطت دلالة العمومات كلها لتطرق احتمال التخصيص إليها، بل تسقط دلالة جميع الأدلة السمعية لتطرق احتمال المجاز والاشتراك إلى جميع الألفاظ لكن ذلك باطل، فتعين حينئذ أن الاحتمال الذي يوجب الإجمال إنما هو الاحتمال المساوي أو المقارب أما المرجوح فلا.
القاعدة الثانية: أن كلام صاحب الشرع إذا كان محتملاً احتمالين على السواء صار مجملاً وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر. القاعدة الثالثة: أن لفظ صاحب الشرع إذا كان ظاهراً أو نصاً في جنس وذلك الجنس متردد بين أنواعه وأفراده لا يقدح ذلك في الدلالة كقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا. اللفظ ظاهر في إعتاق جنس الرقبة وهي مترددة بين الذكر والأنثى والطويلة والقصيرة وغير ذلك من الأوصاف ولم يقدح ذلك في دلالة اللفظ على إيجاب الرقبة، وكذلك الأمر بجميع المطلقات الكليات وقد تقدم أنها عشرة ولم يظهر في شيء من مثلها قدح ولا إجمال إذا تحررت هذه القواعد فنقول الاحتمالات تارة تكون في كلام صاحب الشرع على السواء فتقدم وتارة تكون في محل مدلول اللفظ فلا تقدح، فحيث قال الشافعي رضي الله عنه إن حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال مراده إذا استوت الاحتمالات في كلام صاحب الشرع ومراده أن حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال قامت مقام العموم في المقال إذا كانت الاحتمالات في محل المدلول دون الدليل.
وقال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه: لم يرد الشافعي بذلك مطلق الاحتمال حتى يندرج فيه التجويز العقلي وإنما يريد احتمالاً يضاف إلى أمر واقع لأنه لو اعتبر التجويز العقلي لأدى إلى رد معظم الوقائع التي حكم فيها الشارع إذ ما من واقعة إلا ويحتمل أن يكون فيها تجويز عقلي ويشهد للأول قوله في الأم في مناظرة له قل شيء إلا ويطرقه الاحتمال ولكن الكلام على ظاهره حتى تقوم دلالة على أنه غير مراد فأبان بذلك إلى أنه لا نظر إلى احتمال يخالف ظاهره الكلام وإذا ثبت أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم فالعموم يتمسك به من غير نظر إلى احتمال التخصيص وإمكان إرادته كسائر صيغ العموم. انتهى.
ومن الأمثلة على هذا -كما في السبكي في الأشباه والنظائر-: أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة فلا يعم الشفقين ولا الفرض والنفل وهي مسألة أن الفعل لا عموم له خلافاً لقوم. ومثل له الزركشي في البحر المحيط بما في الحديث أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير مرض ولا سفر فقال إن هذا يحتمل أنه كان في مطر وأنه كان في مرض ولا عموم له في جميع الأحوال فلهذا حملوه على البعض وهو المطر. انتهى.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني