الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما من شك أن الشفاء والعافية أمر متعسر على من أخطأ في تشخيص الداء، ومن وقع في هذه الهوة ربما أراد النفع فضر، وربما سعى للإصلاح فزاد الأمر سوءا وفسادا.
وسوء حال الأمة وكثرة عللها وخطورة أمراضها مما لا يُختلف فيه، ولكن المشكل هو توصيف هذا الداء ومعرفة أصله، تمهيدا لمعرفة سبل العلاج وأسباب المعافاة.
فمن الناس من يذهب إلى أن أصل الإشكال هو غياب الديمقراطية وتقليص الحريات وتجاوز أحكام القانون.. ونحو ذلك !!! وهذا تصور مغلوط فرضته علينا التبعية المقيتة للفكر الغربي، وغياب منهج الوحي المعصوم، وهو في الوقت ذاته مخالف للسنن الإلهية المستقرأة من أدلة الشرع ووقائع التاريخ وأحداث الواقع. وإلا، فمَن مِن الرسل وأتباعهم على مر التاريخ نال ما يسمى بالديمقراطية ووصل من خلالها إلى هداية الناس واستخراجهم من الظلمات إلى النور. وهذه قصص الأنبياء مبثوثة في كتاب الله لمن أراد أن يقف على هذه الحقيقة.
وهناك من الناس من يدرك أن هذه الحال المزرية التي وصلت إليها الأمة إنما هي نتيجة حتمية لتغييب شريعة الله والتخلف عن ركب الكتاب والسنة، والتنكر لمنهج أسلافنا الصالحين ومخالفته. حيث استبدلنا الذي هو أدني بالذي هو خير، فكان الجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدا، وقد قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ {الأنفال: 53} وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ {الرعد: 11}.
فليس الداء إلا في مخالفة أمر الله، فهو الذي يزيل النعم، ويُحل النقم، ويجلب الشقاء والعناء، ويرفع البركة والعافية، وليس لذلك من دواء إلا بالرجوع إلى الله تعالى. واعتبر هذا بأول الأمر، حيث خالف آدم نهي الله فأكل من الشجرة، فكان ذلك سبب إخراجه من الجنة، ثم إنه جاءته العافية بتوبته وإنابته، فاجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
فالقضية قضية موافقة أو مخالفة لأمر الله، وبذلك يتحدد مصير هذه الأمة سعادة أو شقاء، ولن يرفع عن المسلمين ما هم فيه إلا إذا راجعوا دينهم، وبذلك نطق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فقال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.
وفي رواية: ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
فبهذه النصوص ونحوها ينبغي أن يوصَّف داؤنا لنهتدي لعلاجه، وإلا درنا في حلقة مفرغة من الأفكار الشرقية والغربية، وهذا أصل كل بلية. وراجع للأهمية في هذا المعنى الفتوى رقم: 117247.
وأما الديمقراطية وماهيتها وما يقبله الإسلام منها وما لا يقبله، فيمكن للسائل مراجعة ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 18855، 64323، 10238، 129084. ويُكمل هذا ويناسبه أن يراجع حقيقة العلمانية وخطرها، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 2453، 5490، 62210، 100226، 39564. ومنها سيتضح للسائل ما إذا كان الدين يعترف بالقانون أم لا، وما بعده في السؤال. ولمزيد الفائدة عن ذلك يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 9430.
وأما بقية السؤال، فقول السائل: هل مقدر علينا استعمال الدعاء؟ أليس لنا سوى الله؟ فجوابه: إنه لا يأتي بالنفع ولا يدفع الضر إلا الله تعالى وحده، كما قال سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {الأنعام: 17-18} وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {يونس: 107} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.
فليس وراء الله للمرء ملتجأ، وليس لنا سواه سبحانه وتعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، ولكن هذا لا يعني العجز وترك السعي والأخذ بالأسباب التي أمرنا بها، بل الحق أن يعتمد المرء بقلبه على ربه توكلا عليه واستعانة به، ومع ذلك يأخذ بالأسباب؛ طاعة له وامتثالا لحكمه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
وأما قول السائل: علماؤنا ما دورهم في حمايتنا؟ فبداية ننبه على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة من أهل العلم والفضل، ولكن الانتفاع بهم يختلف من أمة إلى أمة، ومن حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر، بحسب استجابة الناس وطاعتهم لهم، وتأمل كيف وصل الحال ببني إسرائيل عندما ذهب موسى عليه السلام للقاء ربه، فقد عبدوا عجلا من دون الله تعالى هذا مع كون نبي الله هارون عليه السلام بينهم يأمرهم وينهاهم ويبين لهم، فما انتفعوا به، بل كادوا أن يقتلوه، كما قال تعالى: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأعراف: 150} وقال عز وجل: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى {طه: 90-91} وما ضر العلماء إن قاموا بواجبهم فلم يستجب لهم الناس ولم يطيعوهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد. رواه البخاري ومسلم. وراجع الفتويين: 32769، 98319.
ثم ننبه السائل الكريم إلى أن أهل العلم أتباع الأنبياء، وليس دورهم الأصيل حل مشكلات العيش من المطعم والمشرب ونحو ذلك، وإن كان هذا يأتي بالتبع، وإنما دورهم الأصيل هو هداية الناس ودعوتهم إلى الله وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وهذا نفسه قد يكون سببا لابتلاء الناس وتعرضهم للظلم والاضطهاد، كما حصل للناس مع الغلام في قصة أصحاب الأخدود.
والله أعلم.