السؤال
شبهة من ملحد تقول: نعلم أنه في بعض مناطق الأرض كسيبيريا والقطب الشمالي لا تشرق عليها الشمس إلا مرة واحدة. فإذا كان الله هو منزل الشرائع التي تعتمد على الوقت كالصلوات والصيام ..الخ فكيف لم ينبه أنبياءه على هذه المناطق إلا إذا كان لا يعرف عنها شيئا لأن منزل الشرائع ليس الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
أعلم أن الحكم الشرعي هو اتباع أقرب بلد يوجد به ليل ونهار دائم، ولكن سؤالي ليس عن الحكم الشرعي ولكن عن جواب هذه الشبهة وهي أن الذي أنزل الشرائع تجاهل بعض الشعوب التي لا يوجد عندها ليل ونهار دائم أو نهار طويل جدا يصل إلى 22 ساعة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن الأمور الواضحة لكل ذي عقل أن الأحداث والأحوال والوقائع متجددة لا تنحصر، ولما كانت الشريعة حاكمة على كل ذلك وكان لابد أن يكون في أدلتها وفاء بهذا كله، كان من إعجازها أن تأتي نصوصها المحصورة في عددها بمعان غير محصورة في دلالتها. وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فما بالنا بكتاب الله عز وجل.
قال ابن القيم: هذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم. وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج من بعث إليه من أصول الدين وفروعه. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما العمليات وما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك . اهـ.
فالسنة من جملة الوحي، فلا يصح أن يقال للحكم الشرعي الذي دلت عليه السنة: إنه لم يبينه الله تعالى، كما في قصة عبد الله بن مسعود عندما قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه؛ قال الله عز وجل: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. متفق عليه.
وأمر آخر لا بد من الانتباه إليه، وهو أن النصوص الشرعية تتفاوت دلالتها من حيث الوضوح، فبعض المسائل تحتاج لاجتهاد في الاستنباط، كما أشار إليه قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. {النساء : 83}.
ولذلك أمر الله تعالى بسؤال أهل العلم فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. {النحل : 43}.
وإذا علم هذا، فإنا نقول: قد جاءت الإشارة في السنة النبوية لكيفية تعامل أهل المناطق المسؤول عنها مع العبادات المرتبطة بسير الشمس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث أصحابه عن المسيح الدجال قالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره. رواه مسلم.
فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع الفجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة، لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال، وإرشاده أصحابه فيه إلى كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه، إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 13228.
وقد سبق لنا أيضا في الفتوى رقم: 77037 جواب شبهة مشابهة حول قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل. فراجعها لزاما . كما سبق في الفتوى رقم: 35321 بيان تضمن القرآن كل احتياجات البشر في دينهم ودنياهم.
والله أعلم.