السؤال
طرح هذا السؤال على أحد مشايخ أهل السنة والجماعة: بعض أهل العلم يقولون بكفر فاعل المعصية المصر عليها، وأن التوبة شرط لكي يعود مسلماً من جديد؟ فأجاب: أما الرجل المصر على المعصية، وهو يعلم أنها معصية فهذا مستحل ! وهذا كفره ظاهر كأن يقول: الربا أنا أعلم أنه حرام لكنني سآكله، والزنا حرام لكنني سأفعله.. هذا واضح الاستحلال فيه فلا شك في كفر مثل هذا الرجل. أما مسألة المعصية غير المصر عليها فلا يكفر بها بطبيعة الحال، وهو مسلم حتى وإن عصى، فكلمة يرجع للإسلام من جديد إذا كان قيد الكلام بالاستحلال فهذا لا شك فيه، رجل استحل المعصية وهو يعلم أنها معصية وفعلها واستحلها هذا يكفر ويخرج من الملة؛ حتى يرجع إلى الإسلام ولا بد أن يتوب ويغتسل وينطق بالشهادتين، ويرجع إلى الإسلام من جديد.. والله أعلم. ما هو ردكم على هذا الكلام؟ وهل سبقه أحد من السلف بهذا القول؟ جزاكم الله خيرا، وبارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا تلازم بين الإصرار على الذنب وبين استحلاله؛ فقد يكون للإصرار أسباب أخرى، كضعف الإيمان وقلة اليقين وغلبة الشهوة وغير ذلك.
فقد أخرج البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب بالحمار، وكان يُضحِك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فُجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله.
فهذا رجل قد أكثر من شرب الخمر ومعاودته، ومع ذلك لم يخرج من الإسلام، بل شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بمحبته لله ورسوله.
لكن إذا اقترن بالإصرار استهزاء بالله تعالى أو اعتقاد حل المعصية، فحينئذ يكفر بذلك لا بالإصرار؛ لأن أسباب الإصرار متعددة كما سبق بيانه. أما مجرد الإصرار فلا يخرج من الإسلام، وإنما يخرج الإنسان من دائرة المتقين الذين وصفهم الله بقوله: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون {آل عمران:135}
ولذلك لم يكفر أهل السنة والجماعة المصرين على الذنوب بمجرد إصرارهم. ولا نعلم أحدا من أئمة السلف ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة قال بكفر المصر على المعصية بمجرد الإصرار.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: أما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فان شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولا ... وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي. اهـ
وقال صاحب العقيدة الطحاوية: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين..إلخ
فإذا كان مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها لا يكفر، فالمصر على الصغائر أولى بألا يكفر، لكن الإصرار على الصغائر يصيرها كبائر، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
والقول بأن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار، فهو قول الخوارج والمعتزلة، فقول القائل: " أما الرجل المصر على المعصية، وهو يعلم أنها معصية فهذا مستحل ! وهذا كفره ظاهر !! كأن يقول: الربا أنا أعلم أنه حرام لكنني سآكله، والزنا حرام لكنني سأفعله.. هذا واضح الاستحلال فيه !! " هذا ليس بصواب؛ لأنه لا تلازم بين الإصرار على الذنب واستحلاله كما بينا، ولذلك لم يستقم أول كلامه مع آخره؛ حيث قال في آخر كلامه: "فكلمة يرجع للإسلام من جديد إذا كان قيد الكلام بالاستحلال فهذا لا شك فيه" مما يجعل كلامه مضطربا.
ويراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 31033.
والله أعلم.