هل كان لنا الاختيار في مسألة خلقنا؟
2020-07-12 07:37:29 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم.
هل كان لنا الاختيار في أمر خلقنا في الدنيا أم لا؟ فالآية تقول أننا شهدنا على أنفسنا أن الله واحد لا نعبد إلا إياه، لكنها لا تقول أننا خيرنا في المجيء إلى الدنيا، أتمنى فعلا لو لم أولد وكنت في العدم، أشعر بأنني مقيدة في هذه الحياة بلا مهرب، فالموت ليس راحة، وبداية حياة أخرى، أنا تعيسة أتمنى شكل لحياتي وأشياء ولا تحدث لي أبدا، ودعوت الله كثيرا لكني أشعر أنه قرر أن أكون تعيسة، أرى الحياة التي أتمنى من خلف الشاشات.
الوجود البشري كله تعيس أصلا، نعيش ونعاني ونحزن ونفقد من نحب على وعد أن يعوضنا الله في الجنة، أليس من الممكن ألا تعجبني الجنة؟ أليس سهلا على الله أن يعطيني ما أريد في الدنيا وأعبده وأدخل حتى أقل درجة في الجنة؟ أليس الفوز هو النجاة من النار فقط؟ الناس في الجنة لا ينظرون لما عند غيرهم وراضون لكن الوضع ليس كذلك في الدنيا، فلماذا نعذب في الدنيا هكذا؟ ونحن أيضا مهددون بدخول النار بالرغم من كل شيء، أصبحت أتمنى العدم لا أريد الجنة ولا النار ولا مشاهد يوم القيامة ولا هذا العذاب، لقد قررت أن لا أنجب أبدا حتى لا أضع شخصا آخر في هذا الموقف.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هبة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبًا – أختنا الكريمة – في موقعك استشارات إسلام ويب.
نسأل الله تعالى أن يَمُنَّ علينا وعليك بنعمة الهداية التامّة، ويُبصِّرنا الطريق المُوصِلُ إليه، ويُحبِّب إلينا الإيمان، ويُزيّنه في قلوبنا.
أسئلتُك – أيتها الكريمة – منها ما جوابه معروفٌ لكلِّ أحد، كالسؤال الأول في اختيارنا لخلقنا ووجدونا، هل كان لنا في ذلك اختيار؟ والجواب لدى كل أحد أنه لم يكن لأحدٍ مِنَّا اختيار في وجوده، ولا في وجوده بصفاته، فلم يختر أحد مِنَّا البلد الذي يُولد فيه، ولا الجنس أو العرق الذي وُلد منه، وهكذا.
فنعمة الإيجاد نعمةٌ تفرّد الله تعالى بها علينا ليس لنا فيها أدنى كسب، وهي نعمةٌ عظيمة، ولهذا يَمُنُّ الله تعالى بها علينا في كتابه في آياتٍ كثيرةٍ جدًّا، كقوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}، وهذه الآية في سورة النحل، وسورة النحل يُسمِّيها العلماء (سورة النِّعم)، لأن الله تعالى عدَّد فيها نِعَمَه على الناس.
ومن أعظم نعم الله تعالى على الناس نعمة الإيجاد، فالوجود خيرٌ كثير، به يُعطى الإنسان فرصة للعيش السعيد الأبدي، وممَّا لا يختلف فيه اثنان ولا يتمارى فيه عاقلان أن الوجود الذي تحفُّه النِّعم الأخرى من المأكل والمشرب والسلامة من المرض والهَرَمِ والموت، ونعني به العيش السعيد الرغيد في جنّة الله تعالى، لا يشكّ اثنان أن هذا النوع من العيش نعمةٌ خالصة وفضلٌ عظيم، وقد سمَّاه الله تعالى (الفوز العظيم).
فكيف ينبغي للمؤمن بعد ذلك أو يصحّ منه أن يتمنَّى أن لم يُوجد، وقد علم أن هذه نهايتُه، وأن تلك الدار هي دارُه؟!
أمَّا وجودُنا في هذه الحياة فهو فرصة للاستعداد لتلك الدار، فإن الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة خلق الناس وهيأهم وأوجدهم على صفةٍ يتمكّنون بها من معرفة الحق من الضلال، والزيغ من الرشاد، يعرفون ما ينفعهم وما يرضهم، كما قال في الآية: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}، فهيأ لنا سبحانه وتعالى بأن أوجد لنا آلات جعلها وسائل للعلم وللمعرفة، فنسمع، ونعقل، ونرى، ثم لم يدعنا سبحانه وتعالى بعد هذا الإيجاد سُدىً، ولم يُهملنا، بل أرسل إلينا الرسل، وأنزل إلينا الكتب، ودلَّنا على طريق الجنّة، وحذرنا من طريق النار، وأخبرنا سبحانه وتعالى أن هذه الحياة القصيرة في الدنيا دارُ ابتلاء وامتحان، وهو مع هذا يُعيننا على هذا الامتحان ويُسهّله علينا، فدلَّنا على الطريق، وأخبرنا عن الثواب، وهيأ لنا الأسباب، وأعاننا عليها؛ فماذا بعد ذلك يُريدُ هذا الإنسان؟ فلله سبحانه وتعالى الحُجَّةُ البالغة.
والله تعالى يعلمُ ما سنفعل، وكان بالإمكان أن يُحاسبنا سبحانه وتعالى أو أن يُدخلنا الجنّة أو النار بمجرد علمه دون تعريض لنا لهذه الامتحانات في الدنيا، ولكنّه سبحانه وتعالى حَكَمٌ عدلٌ يريدُ أن يقطع الحُجج ويسُدَّ طريق المخاصمات التي تحصلُ من هذا الإنسان، فإن الإنسان خصيمٌ مبين، لو أن الله تعالى خلقه وقذفه في النار لقال: (أنتَ أوجدتني ورميتني في النار من غير سابق إنذار، ولم تُمْهِلْني، ولم تُعطني فرصة الاختيار...) إلى غير ذلك من المعاذير والأكاذيب التي يكذبها الإنسان، فالله سبحانه وتعالى أراد ألَّا يبقى لهذا الإنسان حُجّة، وألَّا يتعلَّقُ بعذر، فأوجدَه في هذه الدار وهيأ له الأسباب ودلَّه على الطريق، فإذا هو اختار طريق الهداية نجا ونال ما تمنَّى، وإذا هو اختار الطريق الآخر فهو الذي جنى على نفسه، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد.
فهذه هي نعمةُ الوجود، وهذه هي نهايتُها، أن يعيش الإنسان المتبصِّرُ العاقلُ الذي يقبلُ عن الله سبحانه وتعالى حُجَجَه وآياته، مستعملاً عقله، متفكّرًا، متأمِّلاً، متدبِّرًا، ثم مُنفِّذًا لما أرادَه منه هذا الخالق العظيم سبحانه وتعالى، قائمًا بعبادة الله تعالى من أجل مصلحة نفسه، ثم ينتهي به الوجود إلى العيش السعيد، إلى السعادة الأبدية التي لا تنتهي ولا تنقطع، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنّة: هل ينامون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا، النوم أخو الموت)).
فتلك حياةٌ لا نوم فيها، ولا موت فيها، ولا مرض فيها، ولا أنكاد فيها، وهي حياةٌ أبدية، لا نسبةً عند المقارنة بينها وبين الفترة الزمنية القصيرة التي يُمضيها الإنسان في هذه الدنيا ليستعدَّ لتلك الحياة الدائمة.
فأنتِ – أيتها الكريمة – بحاجة إلى جلسة تأمُّل، وتفكّر بإنصاف، ونظر في آيات القرآن، فإذا تفكّرت وتأمَّلت فستعلمين قدر نعمة الله تعالى عليك، ثم هو سبحانه وتعالى بعد هذا كلِّه غفور رحيم، يقبل من المؤمن اليسير، ويتجاوز من ذنبه عن الكثير، يغفر له ما كان، ويتجاوز عنه إذا هو استغفر وتاب، وصدق الله: {يا أيها الإنسان ما غرِّك بربك الكريم * الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك}.
نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يُرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه.