ما يكاد رئيس الوزراء الإسرائيلي يعود من رحلته الأميركية العاشرة، التي سمع فيها من يقول له: إن عليه ألا يوسع المستوطنات، وأن يشرع في تنفيذ خريطة الطريق، ويكف عن كل ما يعرقلها، حتى عمد إلى الإعلان المباشر عن نيته بناء وحدات سكنية في بعض المستوطنات التي «ينوي» البقاء فيها، وكأنه يقول للرئيس الأميركي الذي استضافه، «وحذّره» : إن "إسرائيل" سوف تفعل ما تريد، بالرغم من كل ما تعد به، أو ما يتم تحذيرها منه.
في الاتجاه نفسه، الذي يعمل على تثبيت حقائق على الأرض، حتى يأتي الوقت الذي تكسب فيه الموافقة الأميركية والدعم، مع هذا الرئيس أو مع الذي يليه، جرت الأحداث من حول شارون أيضاً، وما تزال تجري، من قبل اليمين داخل حزبه، ومن قبل بقايا اليسار التي تتعلق بذيله، وكلها يسير في الاتجاه الذي يشكل تياراً عاماً بين الساسة في "إسرائيل"، لم يعد أحد منهم يجرؤ على معارضته، حتى حين يشعر بأن الاتجاه الشعبي لا يراه، ولا يوافق عليه، لأنه يدرك أن الحالة الدائمة تستلزم أسلوباً مختلفاً، وأن ما يفعله السياسيون يعنيهم شخصياً، ويعني المناصب التي يحتلونها الآن، وغداً، دون أن يكون مهتماً بما سيحدث بعد ذلك، لأنهم - في الغالب - لن يكونوا فيه.
لم يكن قادة الصهيونية الأوائل معنيين بشيء أبعد من إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وهو ما طالبوا به حكومة الانتداب البريطاني منذ البداية، بعد أن رفعوا أوسع شعار يستطيعونه حول الأرض، دون أن يفكروا بمن عليها، لقد تركوا ذلك لمن سيكون على رأس القيادة عندما تقوم هذه الدولة، وهذا ما قام به بن غوريون وحزب العمل، حتى وهو يعلن يساريّته واشتراكيته: لقد تمت تصفية ما يمكن تصفيته من الوجود الفلسطيني في الأرض التي استولى عليها الكيان الجديد، بكل وسائل الإرهاب المتاحة، التي كانت تواجه من قبل الانتداب البريطاني بما تواجه به التصرفات الإسرائيلية الآن، في احتلال الأرض، وتوجيه كل وسائل الضغط نحو الناس، حتى يخلوها، كان هناك التحذير مرة، والغضب الناعم مرة، والوعد بدراسة الأمور وتوجيه الأسئلة مرة ثالثة، والإعلان عن مشاريع تسوية وخرائط طرق مرة رابعة، بينما يستمر الحال لدى طرفي الصراع كما يتجه هذه الأيام تماماً: "إسرائيل" ممعنة في تنفيذ مخططاتها كما تعلن عنها تماماً، والعرب، الذين باتوا فلسطينيين مجرد الفلسطينيين الذين يقفون وحدهم الآن، ممعنون في تصديق الوعود، وتنفيذ الشروط التي تملى عليهم، ويتصورون أن وراءها أملاً، سوف يتحول إلى سراب، إذا ظلت لهم عيون تستطيع ألا تحسب السراب ماء، وتجري إليه.
بعد الزيارة الأميركية العاشرة، التي بدا فيها ما يشبه «الغضب» الأميركي على رئيس الوزراء الإسرائيلي، شاع «تصور» يظن أن "إسرائيل" سوف تكف قليلاً عن «التحدي» الذي تمارسه حكومة شارون منذ وصلت إلى الحكم، خاصة وأنها سوف تنشغل بمسألة الإخلاء، التي تشكل خطوة في طريق الانفراد في اتخاذ القرارات، من أجل أن تواجه ما صورته موجة من الغضب ضد خطة الانفصال، وما حاولت أن تبيعه للعالم، باعتبارها عملاً استثنائياً، يهدد بحرب أهلية، ومع ذلك فقد أقدم عليه رجل السلام الجديد، آرييل شارون، لكن الذي حدث هو أن مثل هذا القرار، الذي ما يزال الشك يدور حول النية في تنفيذه، مع ملاحظة أن شيئاً من الاستعداد الحقيقي لترحيل المستوطنين من غزة لم يحدث بعد، رغم اقتراب موعد التنفيذ، ورغم القيام بترحيل شيء من المعدات: فلا المكان الذي سيؤخذ إليه المستوطنون قرّ عليه الرأي بشكل نهائي، ولا إعداد المكان الذي يجري الحديث عنه قد بدأ، ولا التعويضات والتسويات واضحة، مما يوحي بأن التأجيل، الذي جرى عنه الحديث علانية في الفترة الأخيرة، ربما صار خياراً له الأولوية، ليكون- إذا حدث بالفعل- مقدمة لتأجيل بعد آخر، قد يضع الخطة بكاملها على الرفوف، كما حدث مع كثير من الخطط التي تتصل برحيل الاحتلال عن أي جزء من الأرض الفلسطينية، منذ نشأ الكيان الصهيوني على هذه الأرض.
وبالرغم من أن الخروج من غزة لا يحل في القضية شيئاً كبيراً، إذا لم يقل أحد إنه قد يعقدها، إلا أن "إسرائيل"، تعتبر ذلك خطوة هائلة، وربما نهائية، في تقرير الوضع النهائي للصراع بكامله، ويبدو أن البيت الأبيض، كلما تفاءل العالم قليلاً بموقفه، يعود ليرتد إلى الموقف السابق الذي يعد بأن «يتفحص» ما تعلن عنه "إسرائيل"، ليكتشف أنها لا تكتفي بالقول، وإنما تنفذ ما تقول، مما يضطره أن يتخذ موقف الدفاع عما كان يعارضه من قبل، فيبدو وكأنه يقف وراء كل تلك التحرّكات، أو يلحق بها، بينما يستمر الوطن العربي في قبول الإملاءات الأميركية، والتظاهر بالتفاؤل دون حدود، وهو يعرف أنه لا يوجد مكان للتفاؤل، ما دام كل شيء يبقى على حاله.
قبل أن يرتد صدى الكلمات التي أكد عليها الرئيس الأميركي في مؤتمره الصحفي المشترك مع شارون، كان وزير الخارجية الإسرائيلي سلفان شالوم يضع الحدود النهائية لكل ما تراه "إسرائيل" بالنسبة للمستقبل، ودون أي إحساس بأن العالم يضم شعوباً غير "إسرائيل"، وأنه تواضع على قوانين يفترض أن يلتزم بها كل عضو في الأسرة الدولية، ودون أي إحساس بأن الأرض التي يقف فوقها محتلة، وان لأصحابها الشرعيين شيئاً من حق فيها، بعد أن تنازلوا عن الجزء الأساسي منها، بسبب حالة الضعف التي يعيشونها، ويعيشها العالم العربي وهو يسلمهم لمصيرهم، ويستسلم لما تمليه عليه القوى الأخرى، من أجل أن تستمر في السيطرة على ثرواته، والتحكم بمستقبله.
لقد وصف شالوم الأرض الفلسطينية المحتلة بأنها أرض "إسرائيل"، واعتبر كل جزء من هذه الأرض «وطنه» الذي لا يفكر بالرحيل عنه، وكشف بذلك أن كل كلمة تقال حول السلام والتسوية، وحتى حول خطة الانفصال، ليست سوى نوع من إشغال العالم بشيء، من أجل أن تستمر "إسرائيل" في تنفيذ مخططاتها في الضم وتكريس الاحتلال، رغم أنف العالم، وهو ما يشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يعتبر وزير خارجيتها ناطقاً رسمياً باسمها، ليس في نيتها التنازل عن أي شيء من مخططاتها، ولا من أهدافها التي قام عليها حزب الليكود، الممثل الأكبر لليمين الإسرائيلي، وهي الأهداف التي أوصلته إلى الحكم، وما زالت قادرة على أن تبقيه فيه، كما أن حزب العمل، الذي لم يعد سوى مجرد تابع، نطق على لسان رئيسه بيريز بما لا يختلف، حين أصر على أن "إسرائيل" لن تخرج من القدس إلى الأبد.
ولا يظن أحد أن الأهداف الإسرائيلية خافية، لأن كل هذه الأهداف معلنة منذ البداية، ولعل أبرز ما لا يصحّ أن يغيب عن الذهن، بشأن الصهيونية عموماً، و"إسرائيل" كتجسيد لها، هو ما يؤكده القادة باستمرار، ويلحّ عليه شارون، وهو يبدي كثيراً من التحدي للعالم، بما في ذلك البيت الأبيض نفسه، هو محصلة التجربة التي ترى الصهيونية أنها خرجت بها من التجربة النازية، التي تقول: لقد اعتمدنا على العالم، لكنه لم يوفر لنا الحماية، فلم يعد أمامنا إلا أن نحمي أنفسنا، حتى وإن اضطررنا أن نقف ضد كل توجهات العالم.
إن سياسة شارون هي التجسيد الحقيقي لهذه المقولة التي تعتبر أبرز المقولات الصهيونية بعد نشوء الكيان الصهيوني في فلسطين، فبالرغم من الاعتماد الكلي على الغرب، وعلى الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، تبقى وجهة النظر السائدة في "إسرائيل"، وخاصة لدى اليمين، هي أن على "إسرائيل" أن تعتمد على نفسها في حماية نفسها، لأن العالم غير معنيّ بأن يحميها.
هذا الإحساس هو الذي حوّل "إسرائيل" إلى واحدة من أكثر الدول تسلّحاً في العالم، ليس على مستوى ما تحرص على امتلاكه من سلاح ثقيل وحسب- هو أحدث ما تنتجه مصانع السلاح الأميركية على الإطلاق- ولكن في اتجاهين آخرين، أحدهما معروف للعالم كله، هو السلاح النووي، الذي أعطي رمزياً اسم خيار شمشون، والثاني هو الذي يشعر به من يعيش داخل "إسرائيل" نفسه، وهو السلاح الخفيف، الذي يملكه الناس بكل سهولة، سواء أكان ذلك على مستوى المستوطنين الذي لا يتحركون إلا وهم يحملون أسلحتهم، أو على مستوى الحراس الذين يتبعون الشركات الخاصة، ممن امتلأت بهم كل الأماكن، خلال انتفاضة الأقصى، وذلك بالإضافة إلى ما تحمله أجهزة الأمن وحرس الحدود من أسلحة، تجعل نسبة الأسلحة الخفيفة في "إسرائيل" إلى عدد السكان، من أعلى النسب في العالم.
وقد لا يكون الخوف حقيقياً بالفعل، مع حالة الضعف التي يعيشها العالم العربي المحيط بـ"إسرائيل"، وتوفر الحماية الأميركية الدائمة لها، بالإضافة إلى قوتها الذاتية التي تهدد العرب جميعا، وقد تهدد غيرهم من دول المنطقة، وإلى الاستعداد الغربي الدائم لمثل هذه الحماية- كل وقت- وهو ما يجري التأكيد عليه دون كلل، ودون شعور بأن "إسرائيل" هي التي تهدد جيرانها، وليس العكس، لكن هذا الخوف المعلن يشكل الذريعة التي تلجأ إليها "إسرائيل" لتبرر كل عدوان تقوم به، وكل تمرد على سادتها الذي يحفظون لها البقاء، وهو وحده الذي يجعل أي رئيس للوزراء في "إسرائيل"، يعلن أنه مُصِرٌّ على أن يفعل ما يريد، رضي بذلك الأميركيون أم لم يرضوا، رغم أنه يعرف أن خروج "إسرائيل" خارج دائرة الرضا الأميركية أمر لا يحدث قط، وما يحدث في العادة هو أن يكون الرئيس الأميركي حريصاً على الوجود الإسرائيلي، والقوة الإسرائيلية، كرادع يساعد في ضبط الأمور داخل المنطقة، للصالح الأميركي، الذي يتعامل مع "إسرائيل" باعتبارها قوة تخصه، لكنها مقيمة في المنطقة التي يرغب في السيطرة على مقدراتها.
وسط مجموعة العوامل التي تضغط على الطرف الفلسطيني الأضعف، وتبتزه من كل اتجاه، هل يمكن الحديث عن ثقة بما يمكن أن يتمخض عنه حاضر مثل هذا لصالح المستقبل؟.
الوطن القطرية24/5