عادةً ما يُوصف شارون بأنه يمثل "الجناح المتطرف" في الدولة الصهيونية (في مقابل بيريز وباراك وغيرهما ممن يُوصفون بأنهم يمثلون "الجناح المعتدل"). إلا إن مصطلحات مثل "التطرف" و"الاعتدال" تبدو شديدة العمومية وتفتقر إلى المقدرة التفسيرية، وخاصةً إذا تعلق الأمر بظاهرة تتسم بقدر كبير من الخصوصية مثل الدولة الصهيونية، ومن ثم فلابد من دراسة "التطرف" و"الاعتدال" الصهيونيين في سياقهما الاستعماري الاستيطاني الإحلالي.
وتشير الخبرات المتراكمة عبر مسيرة الصراع إلى أن العدو الصهيوني قد يظهر قدراً من "الاعتدال" إن ظل الفلسطينيون ساكنين دون أن يتحدوا الرؤية الإدراكية الاستيطانية أو موازين القوى السائدة، أما إذا انتفض الفلسطينيون وطالبوا بالحصول على حقوقهم وبدأوا في تغيير موازين القوى لصالحهم وبدأوا يشكلون تحدياً للعدو الصهيوني، فإن "الاعتدال" يصبح مرفوضاً، ومن ثم تظهر القيادات المتطرفة مثل شارون، الذي صرَّح بأن ما لا يُؤخذ بالقوة يُؤخذ بمزيد من القوة، وأن "المستوطنات لها أهمية تاريخية واستراتيجية فهي مسقط رأس الشعب اليهودي، كما توفر عمقاً استراتيجياً للدولة الصهيونية لحماية وجودها". ولهذا السبب رفض شارون أية دعوة لتفكيك أو إخلاء أية مستوطنة، كما وقف بحزم ضد تقسيم أرض "إسرائيل" الكبرى، والتي تمتد من البحر (الأبيض المتوسط) إلى النهر (نهر الأردن)، وضد الجدار العازل وضد إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
التطرف الشاروني والطريق المسدود
ويتجلى ذلك "التطرف الصهيوني" في أوضح صوره مع تصاعد المقاومة ودخول الجيب الاستيطاني الصهيوني فيما يمكن تسميته "المرحلة الشارونية"، التي بدأت باستقالة باراك ووصول شارون إلى سدة الحكم واعداً بالقضاء على الانتفاضة في مئة يوم. وقد مرت مئات الأيام وثبت إخفاق شارون في إخماد الانتفاضة، مما يعني أن المستوطنين الصهاينة تلقوا رسالة مسلحة واضحة مفادها أن هذا التطرف الشاروني قد أدخلهم في طريق مسدود، ولذا بدأوا يبحثون عن مخرج، ومن هنا بدأت فكرة الانسحاب من غزة والتي يؤيدها 69 في المئة من المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة عام 1948، والتي يدافع عنها شارون الآن ويرمي بكل ثقله وراءها.
ولكن، ثمة مشكلة حقيقية يواجهها شارون، وهي أن الانسحاب المذل من جنوب لبنان لا يزال عالقاً في الأذهان، ولهذا فهو يحاول جاهداً أن يجعل انسحابه من غزة وكأنه انسحاب المنتصرين فيصعّد من عمليات البطش والاغتيالات السياسية وهدم المنازل وتجريف الأرض وقتل أي شيء يتحرك داخل منطقة يحددها هو، حتى يبدو الأمر وكأنه سينسحب لأنه انتصر! ولكن هيهات، فالصحف الإسرائيلية لا تفتأ تذكّره بالدوافع الحقيقية للانسحاب.
فقد كتب الصحفي أوفير شيلاه مقالاً بعنوان "لا توجد علاقة" (يديعوت أحرونوت، 2 نوفمبر 2004) يقول فيه: "بعد خمسين شهراً من اندلاع الانتفاضة، يستمر القول بأن الانتفاضة لا علاقة لها بسلوك الإسرائيليين، لأننا تقبلنا الاعتقاد الغبي القائل: إن قواتنا وقوة قبضتنا أثبتت مقدرتها على الانتصار... بواسطة قواتنا سنمنع إطلاق صواريخ القسام، وبواسطة قواتنا سنوقف كل فلسطيني يحمل حزاماً ناسفاً يحاول أن يخترق الجدار، ومن خلال قوتنا سنغير الواقع بأن ننسحب (ولن يكون الفلسطينيون شركاء في هذه العملية لا سمح الله لأن هذا يعني أن عملية التغيير ليست نتيجة قوتنا). إن نظرية "أن لا علاقة" (بين الانتفاضة والسلوك الإسرائيلي) قد غُرست وبعمق في الوعي الإسرائيلي حتى أننا لم نعد نسأل عما إذا كان سلوكنا سيكون له نفع مباشر أو محتمل".
تراجع واضح
وخلاصة ما يقوله هذا الصحفي أن الوعي الإسرائيلي (الخريطة الإدراكية في مصطلحنا) لا يستطيع، أو لا يقبل، أن يرى العلاقة الواضحة بين الانسحاب من غزة (أو فك الاشتباك مع الفلسطينيين، كما يحلو للصهاينة تسميته) من جهة، وتصاعد المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، كما يرفض الاعتراف بأن الانسحاب هو نتيجة لفشل الحل العسكري وفشل آلة الحرب الإسرائيلية في قمع الانتفاضة.
وهذا ما يؤكده صراحةً الصحفي الإسرائيلي يارون لندن في مقال له بعنوان: "السبب الحقيقي لفك الاشتباك" (يديعوت أحرونوت، 28 أكتوبر2004)، حيث يقول: "لم يشرح رئيس الوزراء ولا أي من الوزراء الدوافع الحقيقية لفك الاشتباك. لقد ناقش شارون الحاجة للتفاهم مع الفلسطينيين واعترف بشيء من التردد بحدود القوة... ولكن شارون لم يقدم تفسيراً جيداً لتغيير موقفه فجأة. فبعد أن كان يذهب إلى القول إن كفار داروم ونيتساريم هما مثل صحراء النقب وتل أبيب، ها هو ذا يتراجع عن موقفه فيخبرنا الآن أن فك الاشتباك سيدعم من موقفنا الأمني!".
ينسحبون مرغمين
ويمضي الكاتب معترفاً، في لحظة صدق نادرة: "نحن لم ننسحب قط من أية أرض إلا مرغمين، فاحتلالنا لا ينتهي إلا حينما تُنهك قوانا أو حينما ترغمنا القوى الكبرى على إطاعة أوامرها بالانسحاب... فنحن لم ننسحب من سيناء إلا بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدناها في حرب" يوم كيبور" - حرب أكتوبر-1973، وتركنا لبنان لأنه لم يعد بمقدورنا تحمل الخسائر التي ألحقها بنا "حزب الله". وسننسحب من غزة في المستقبل لأننا أخفقنا في أن نرسخ في الوعي الفلسطيني أن قوتنا العسكرية تفوق قوتهم بمراحل. بل إن ما حدث هو العكس، فقد رسخ الفلسطينيون في الوعي الإسرائيلي أن الإسرائيليين قد قضموا مساحة من الأرض لا يمكنهم مضغها أو هضمها. إن الانسحاب من منطقة أقسمت كل الحكومات الإسرائيلية أنها ستكون للإسرائيليين إلى الأبد، منطقة استُثمرت فيها مبالغ هائلة وسيستثمر مثلها في عملية الانسحاب، منطقة قضى مئات الجنود والمدنيين حتفهم لاحتلالها والدفاع عنها- إن مثل هذا الانسحاب لا يمكن أن يكون إلا هزيمة مريرة".
الانتفاضة تحقق انتصارا
ويمكن استخلاص نتيجتين رئيسيتين من هذا التحليل الدقيق الذي يقدمه ذلك الكاتب الإسرائيلي وغيره، وأولاهما أن الانتفاضة تحقق انتصارات على الكيان الصهيوني وتثبت له أن قوته العسكرية لن تكسر شوكة شعب يدافع عن أرضه وحريته وحقوقه، وأن الزاعمين بأن عسكرة الانتفاضة قد أدخلت الفلسطينيين في طريق مسدود، لا يرصدون الواقع الإسرائيلي بما فيه الكفاية.
أما النتيجة الثانية فهي أن الحديث عن سطوة اللوبي الصهيوني وعن استحالة المقاومة أمام الدعم الأميركي المطلق للكيان الصهيوني يتساقط أمام تصاعد المقاومة. فإدارة بوش أعطت الضوء الأخضر لشارون ليعربد ما شاء العربدة، وأيدته في موقفه الرافض لتلك المستوطنات. ولكن هاهو شارون ينسحب من غزة ويفكك المستوطنات فيها، رغم معارضة اليمين الصهيوني. إن المعركة الحقيقية هنا في فلسطين وفي العالم العربي، وليست في واشنطن، كما يحلو للبعض القول. والله أعلم.
صحيفة الاتحاد الإماراتية 4/12/2004