الأصالة والمعاصرة من الكلمات التي كثر الحديث عنها والدعوة إليها في العصر الحاضر ، وما من شيء أخطر على الدعوة من أن تلتبس سماتها الأساسية أو يلابس خصائصها غموض أو اضطراب.
ويقصد بالأصالة " المحافظة على جوهر الدعوة باستنادها إلى الأصول والأدلة الشرعية والتمسك بمبادئها الأساسية " والمعاصرة هي : " تكافؤ الدعوة مع العصر الذي تعيش فيه بحيث تعالج واقعه وتلبى متطلباته " ومن هذا التعريف يتضح أن وصف الدعوة بالأصالة وصف صالح لكل زمان ومكان.
ووصف الدعوة بالمعاصرة أيضاً صالح لكل زمان ومكان ، وليس وصفاً خاصاً بالعصر الحديث كما قد يتوهم ، فدعوة الناس بلسانهم ولغتهم معاصَرة , واختيار الأسلوب الدعوى المناسب لموقف من المواقف معاصَرة واستخدام الوسائل المتوفرة في عصر من العصور لنشر الدعوة معاصرة ، وسيرته صلى الله علية وسلم في تمسكه بأصالة دعوته لا يحيد عنها ، ولا يقبل مساومة فيها وفى ذات الوقت معالجته واقع عصره ، وتخيره الأساليب النافعة لدعوته ، واستخدام جميع أنواع الوسائل المشروعة المتوفرة في عصره غير زاهد بشيء منها أمر لا يخفى على من اطلع على سنته صلى الله علية وسلم ، وقد سار الصحابة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهجه كما في جمع أبى بكر الصديق رضى الله عنه للقرآن، يقول الحافظ ابن حجر : " وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول صلى الله علية وسلم ، بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله علية وسلم ، وكذلك موقفهم رضي الله عنهم من إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه بعد موت رسول الله صلى الله علية وسلم. وهو موقف تتجلى لنا دقة الموازنة فيه بين الأصالة والمعاصرة فما أشار الصحابة رضوان الله عليهم ، وفيهم عمر بن الخطاب بعدم إنفاذه إلا خوفاً منهم على مصلحة الدعوة ورأيا منهم بأن الظروف قد تغيرت والمصلحة تقتضي بقاء هذا الجيش العظيم في عاصمة الدولة وحول الخليفة. وقد هددها ما هددها من عدو ماكر لدود ولم يجدوا في ذلك معارضة لأمر رسول الله صلى الله علية وسلم في إنفاذ الجيش وإنما هي مصلحة قد طرأت ، وظروف قد تغيرت يمكنها أن تقيد ذلك الأمر وما أبى أبوبكر رضي الله عنه - وهو الإمام - ذلك الإباء الشديد وحزم ذلك الحزم إلا وهو يرى المصلحة في إنفاذ ذلك الجيش ، وأنه أمر منه صلى الله علية وسلم يلزمه ويلزم المسلمين وقال قولته المشهورة : " والذي لا إله غيره ، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله علية وسلم ، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله علية وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله علية وسلم " وكان الخير والصواب في تصرف أبى بكر رضى الله عنه.
ضوابط الأصالة والمعاصرة :
لابد من التعرف على ضوابط الكلمتين حتى لا يساء فهمهما فتصاب الدعوة بالجمود أو تقع فى التنازلات والتجاوزات. فليست الأصالة تحجراً فى العقول ، وليست المعاصرة أيضاً ميوعة فى المواقف ولا ذوباناً فى الشخصية وليست الغاية من الدعوة إرضاء الناس وتحقيق رغباتهم ، وإنما هي هدايتهم ودلالتهم على الصراط المستقيم. قال تعالى :
( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن أتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير ) [120البقرة]
ومن أهم هذه الضوابط :
1.المحافظة على الأصول الشرعية محافظة تامة ، والتمسك بالسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ سورة الحشر : آية 7] وعن العرباض بن سارية رضى الله عنه قال : " وعظنا رسول الله صلى الله علية وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة " ( رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ). والاتباع والتأسى بسنة رسول الله صلى الله علية وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم ، يشمل أقوالهم وأفعالهم ، كما يشمل سيرتهم العملية ومناهجهم التطبيقية. والاتباع في المناهج والأساليب مقدم في الأهمية على الاتباع في الأقوال والأحكام.
2.اجتناب البدع اجتناباً كاملاً ، والحذر منها كل الحذر : ففي الحديث : " وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلاله " ( متفق عليه ) وفى الحديث أيضاً : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ( متفق عليه ). ولابد هنا من حمل الأحاديث المطلقة على المقيدة وذلك ليصح فهمها ، والعمل بالمنطوق والمفهوم خير من العمل بأحدهما. كما في جمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس في الصلاة التراويح ثم قوله بعد ذلك نعم البدعة هذه. فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم ، وأخرج البيهقي عن الشافعي أنه قال " المحدثات ضربان : ما أحدث يخالف كتاباً ، أو سنة ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذا بدعة الضلال وما أحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك ، فهذه محدثة غير مذمومة ".
3.التمييز بين المناهج الدعوية الثابتة وبين الأساليب والوسائل المتطورة فمن المناهج ما هو رباني ثابت لا يجوز أن يطرأ عليه تحويل أو تغيير ، قال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) ومن الوسائل ما هو بشرى متطور ، يضعه الدعاة بما يتناسب مع المدعوين ، مجتهدين في ذلك مقتبسين له من منهج الله تعالى. وهذا النوع من الوسائل يتطور ويتغير بحسب المدعوين ، وتبعاً لظروفهم وأحوالهم ومستوياتهم. وإذا كان الأصل في المناهج الربانية الثبوت والاستمرار وعدم التحول ، فإن الأصل في الأساليب والوسائل والمناهج البشرية التطور والتحول إلى ما يناسب كل عصر و بيئة.
4.المحافظة على شرعية المناهج والأساليب والوسائل ، وتجنب مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " ... فعلى المسلم أن يتجنب الحرام ، ولو توهم أن فعله قد يوصله إلى خير ، كما عليه أن يفعل الواجب ، وإن توهم أن تركة يدفع عنه شراً ، فإن الشر لا يأتي بالخير ، وفى الحديث : " تحروا الصدق ، وإن رأيتم أن الهلكة فيه فإن فيه النجاة " وفى رواية - أخرى بزيادة : " واجتنبوا الكذب ، وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة " ولا يتعارض هذا مع ما ورد من ترخيص بالكذب في بعض المواطن - كاستثناء من حكم عام - كما فى الحديث : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمى خيراً أو يقول خيراً " ( متفق عليه ). وفى رواية لمسلم بزيادة قالت أم كلثوم " ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ، تعني: الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ".
5.مراعاة الاختلاف فى الأحكام الشرعية ، فلا ينزل الأمر المختلف فيه ، منزلة الأمر المتفق عليه ، يقول سفيان الثوري: " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه ، وأنت ترى غيره ، فلا تنهه : ويقول : " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به " وقديما قالوا : وما كل خلاف جاء معتبراً ...
وعلى الإنسان أن يفرق بين الأحكام الشرعية القطعية التي لا يختلف فيها ، وبين الأحكام الاجتهادية المختلف فيها ، فيعمل بما ترجح لديه فيها - إن كان أهلاً للترجيح - ثم السلامة والحيطة لا يعدلها شيء. يقول ابن تيمية : " ... نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ".
6.التوسط والاعتدال في التمسك بالدين والبعد عن الغلو والتشدد ، وتجنب التقصير والتساهل . وفى الحديث : " هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً " ( رواه مسلم ). قال النووي : المتنطعون: المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد " وفى الحديث أيضاً : " إن الدين يسر فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " ( رواه البخاري ). قال ابن المنير : " في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع ، وليس المراد منه طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ". وفى الحديث الذي رواه ابن ماجة : " يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم ".
7.الرجوع في حكم المسائل المستجدة إلى أهل العلم والاختصاص ؛ لتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، قال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) وفى الحديث : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً ، اتخذ الناس رؤوسا جهالاً ، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " ( متفق عليه ).
الأصل في العبادة التوقيف
وبعد هذا العرض السريع نذكر أنفسنا والمسلمين جميعاً بأن الأصل في العبادات التوقيف - أي إنها تؤخذ دون زيادة ودون نقصان - ومن سمات هذه الدعوة التطور لا الرجوع إلى الوراء ولكن هذا فيما يقبل التطور والتحضر والتقدم ، والمعاملات عموماً الأصل فيها الإباحة إذا روعيت ضوابطها الكلية وطالما أنها لم تصطدم بنصوص الشريعة. وأن الخير كله في الاتباع لا في الابتداع ثم الحكم على الأمور بحق أو باطل وحسن أو قبح لا يعتبر فيه القدم لذاته ولا الحداثة لذاتها وإنما هو في موافقة الحق ، والتمسك بالأصول من جهة وفى مراعاة الظروف والأحوال ، وتغير الأزمنة والأمكنة في ضوء تلك الأصول من جهة أخرى ولا يجوز إنزال بعض الدعاة لأقوال وسلوك أصحاب دعوتهم ، ومؤسسي جماعتهم ورؤساء تنظيماتهم منزلة الأصول الثابتة والحجة القاطعة على الرغم من ثبوت خطئها أحياناً أو ظهور عدم صلاحيتها في حال من الأحوال أو ظرف من الظروف. ولا يجوز أن نركن إلى أصحاب المنكرات فليست هذه معاصرة كما لا يصلح أن نعتزل ونهجر العصاة في مثل ظروفنا هذه فليست هذه أصالة وما شرع الهجر إلا لجلب مصلحة ولدفع مفسدة وهو أسلوب للعلاج لا للبتر ولا للإهلاك ، وما نفع الهجر في الماضي إلا يوم أن غلب على المجتمعات الصلاح ، وقد كان من مذهب عمر وأبي الدرداء وإبراهيم النخعي أنك لا تهجر أخاك عند المعصية فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى وفى الحديث : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " ( رواه أحمد والترمذي ).
الابتكار والتجديد
وعلى الدعاة ألا يكتفوا بالوسائل المتوارثة ويهملوا وسائل حديثة متطورة تمكنهم من الوصول لأهدافهم وتعينهم على تحقيق غاياتهم فكلما وجد الداعية وسيلة شرعية أجدى وسبيلاً أقصر كان حريا به أن يستفيد منها وأن يستخدمها في سبيل الوصول إلى هدفه. والكل مطالب أن ينتبه للأخطاء التي تحدث باسم الأصالة والمعاصرة فكم مِن شباب الدعوة اليوم مَن لا يتميز سلوكه عن سلوك عامة الناس فيقع في المحرمات والمخالفات في طريق الدعوة متوهماً أنه يحقق بذلك نوعاً من المعاصرة اللازمة كحالة من يصافح النساء أو يحلق لحيته أو يتساهل في حجاب زوجته أو بنته أو يألف أنغام الموسيقى المحرمة. وفى الوقت ذاته كم من شباب الدعوة من يصاب بنوع من التحجر والجمود فيتشدد في أمور ينفر بها الناس من حوله متوهماً أنه يحقق نوعاً من الأصالة المطلوبة وهو يقع في الإفراط والتفريط. ومن هذه الصور أن يحجر على المرأة في بيتها وتمنع من الخروج ولو للزيارات المباحة مع تأدبها بالآداب الشرعية ومع وجود الحاجة لذلك أو يمنع من لباس دون لباس مع انطباق المواصفات الشرعية على هذا وذاك وليس هو شعاراً لغير المسلمين ولاسيما إذا دعت إلى استعماله مصلحة زمنية أو حاجة علمية.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يهتدون بهدى كتابه ويقتفون سنة نبيه صلى الله علية وسلم ، ومن الذين قال في حقهم :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) [الأحزاب 23].