يسعى معظم الشباب في دولهم المختلفة إلى تفادي استحقاق تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية ، لأنها تنتظرهم عند مفترق مهم وحساس من حياتهم ؛ قد يؤدي ولوجهم فيه إلى تحولات وانفصامات تعيد تشكيل حياتهم من جديد .
وبينما ألغت كثير من الدول الخدمة العسكرية الإلزامية ، وحصرت جيوشها بالوحدات المحترفة كهولندا وفرنسا ، إلا أن الاضطرابات والحروب ما تزال تهدد الكثير من الدول والمجتمعات ، ويبدو أن على الشباب أن يدفعوا أثمان سياسات دولهم من أعمارهم .
وتتفاوت نتائج الخدمة العسكرية وآثارها بحسب وظائف الجيوش وكثرة مهامها ، ففي العراق قد تصل فترة الخدمة الإلزامية في الجيش إلى نحو 12 عامـًا ، وقد تمتد العمر كله ، وفي روسيا قد يدفع المجند حياته ثمنـًا لإرساله من دون تدريب إلى حرب الشيشان مثلاً .
وفي الجزائر زجت الدولة خلال سنوات المحنة في تسعينيات القرن الماضي بالمجندين في مواجهة المقاتلين المحترفين من الأهالي ، أما في لبنان فقد أدى تضخم الحاجات الأمنية للدولة في مقابل وضعها الاقتصادي السيء إلى الإصرار على أخذ الشباب سنة إلى الخدمة العسكرية .
في العراق.. حرب تلو حرب، ويتواصل الكرب..
ينص قانون الخدمة العسكرية في العراق على تحديد ثلاث سنوات يقضيها الذين لم يكملوا تعليمهم . وسنة ونصف السنة لمن أكمل الدراسة الجامعية ، بينما تبلغ الخدمة لأصحاب الشهادات العليا ستة أشهر ، ولكن لأن حرب إيران استمرت 8 سنوات في الثمانينات ، بدا من الطبيعي أن يتجمع نحو مليون رجل عراقي في الجيش ، وأصبح الحديث عن التسريح من الخدمة العسكرية شيئـًا أقرب إلى الخيال ، ولم تبدأ أولى المجموعات في مغادرة الثكنات والعودة إلى الحياة إلا بعد نهاية الحرب بنحو ستة أشهر أي في أوائل عام 1989م .
ولم تتم فرحة واستبشار باقي الجنود بالخروج إلى الحياة ، إذ ما لبث أن تم غزو العراق للكويت ، كي يتم استدعاء مئات الآلاف من الجنود إلى "أم المعارك" التي ساهمت نتائجها الحاسمة في خروج أعداد كبيرة من شباب العراق من أتون الخدمة العسكرية ، وأصبح وجود أعداد كبيرة من الجنود عبئـًا على قيادة الجيش التي عادت فقررت الالتزام بالفترات المحددة للخدمة العسكرية ، وعدم تمديد المدة .
كما أصدر مجلس قيادة الثورة عام م1994 قراراً بإمكانية دفع "بدل نقدي" مقداره مليون دينار عراقي يصبح بموجبه المكلف حرًا من أداء الخدمة العسكرية ، عدا ثلاثة أشهر هي فترة التدريب الأساسي ، ويدفع المطلوبون لأداء خدمة الاحتياط البالغة شهرين من تجاوز الخدمة مقابل دفع نصف مليون دينار عراقي .
ومع تفاقم حالة الفساد الإداري بدأ الضباط في تلقي المبالغ في مقابل غض النظر عن دوام الجند في وحداتهم ، الأمر الذي حدا بالسلطات العراقية إلى إصدار قرارات بإيقاع عقوبات قاسية بالضباط الذين يتلقون مثل هذه الرشاوي .
وعلى الجندي المجند أن يتحمل الأعباء التي من أبرزها تكاليف الانتقال إلى الثكنات التي تكلفه أكثر من راتبه الشهري بكثير ، إضافة إلى تدني نوعيات الطعام ، وشراء البذلة الإضافية وتوابعها من حذاء وبريه ونطاق وسترة شتوية ، علمـًا بأن الراتب الشهري للجندي العراقي يصل إلى نحو عشرة آلاف دينار . ولكنه غير كافٍ لمتطلبات النقل من وإلى الثكنة - وحدها - مما جعل الخدمة العسكرية عبئـًا مضافـًا على كاهل العائلات العراقية ولا سيما حين تشمل الخدمة العسكرية أكثر من ولد في العائلة الواحدة .
تونس تخفض الخدمة إلى سنة واحدة
تراجعت فترة الخدمة العسكرية في تونس تدريجيـًا من ثماني سنوات إلى سنة واحدة ، في آخر قانون للخدمة العسكرية الوطنية ، وبموجب البند الأول من القانون الأخير ؛ فإن كل شاب يبلغ العشرين من عمره "مطالب شخصيـًا بالخدمة الوطنية ، ما لم يثبت طبيـًا أنه عاجز جسديـًا" ، كما أتاح القانون للشباب الذين بلغوا سن الثامنة عشرة أن يطلبوا أداء الخدمة "بعد الحصول على ترخيص من أوليائهم وموافقة وزير الدفاع" .
وإضافة إلى ذلك أتى القانون الأخير والتعديلات التي أدخلت عليه بتسهيلات تتيح لمن لديهم موانع وجيهة تحول دون القيام بالخدمة العسكرية إرجاء فترة الخدمة إلى ما بعد استكمال دراستهم ، أو تدريبهم المهني ، أو حتى إعفائهم تمامـًا في حالات محددة ، ويعتبر الشباب الذين أكملوا سنة الخدمة العسكرية من ضمن جيش الاحتياط لفترة تستمر أربعـًا وعشرين سنة ، لكن عند الاقتضاء يحق لوزير الدفاع الإبقاء على أفراد الحصة في الخدمة الوطنية إلى ما بعد الفترة القانونية ، أو معاودة دعوتهم للخدمة المباشرة . وقد لوحظ أن التكوين العسكري صار يركز على استيعاب الشباب في كليات عسكرية متعددة التخصصات مما يدل على إعطاء الأولوية لنوعية التكوين وليس الكم .
ولمراعاة ظروف الطلاب في الجامعات والعاملين في قطاعات اقتصادية دقيقة ، والذين لا يستطيعون أداء الواجب العسكري أدخل التونسيون نظامـًا جديدًا يعرف "بالتعيينات الفردية" ، ويتمثل ببقاء المجند في موقع العمل أو الدراسة مع دفع ضريبة شهرية لوزارة الدفاع بعدما يتلقى تدريبـًا مكثفـًا على استخدام السلاح يستمر فترة قصيرة ، وامتد هذا النظام ليشمل الطلاب والعمال التونسيين المغتربين ، بشرط الاستظهار بشهادة إقامة في بلد عربي أو أجنبي ، وشهادة التسجيل لدى الجامعة أو المؤسسة التي يعمل فيها ، ويعفى من الخدمة كل من يثبت طبيـًا أنه غير مؤهل للقيام بالواجب العسكري ، أو من لديه أسرة في كفالته .
400 بليون ليرة يوفرها المجندون اللبنانيون
خفَّض قانون خدمة العلم في لبنان الخدمة العسكرية الإلزامية من سنة ونصف السنة إلى سنة واحدة فقط ، يعفى من أدائها الشباب الوحيدون لأهلهم ، أو المرضى أو الذين يعانون من إعاقات مزمنة . ولكن مشكلة التجنيد تكمن في الأعباء المالية الإضافية على الأهل ، إذ يقتصر ما يتقاضاه المجند في الشهر على 90 ألف ليرة لبنانية ، وهو مبلغ لا يكفي لتنقلاته بين الثكنة والمنزل ؛ في حين تنتظر الكثير من العائلات اللبنانية في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة أن يبلغ أبناؤها هذا العمر ليساعدوا العائلة في أعبائها .ولكن لخدمة العلم فوائد في لبنان بشكل خاص ، كما أفاد مصدر عسكري لبناني ، وهي :
1- تحقيق الانصهار الوطني ، بخلق جو من التقارب بين الشباب اللبناني المتعدد الطوائف ، وإزالة الحواجز النفسية بينه .
2- تأمين عدد وافٍ للجيش اللبناني ، فقد حدد القرار السياسي الحاجة الأمنية والدفاعية بنحو 65 ألف عسكري ، والجيش مكلف كذلك بحفظ الأمن على الأراضي اللبنانية منهم 40 ألف متطوع ، والـ 25 ألفـًا المتبقين هم من المجندين ، واستبدالهم بمتطوعين يكلف الدولة نحو 400 بليون ليرة لبنانية في السنة .
3- اكتساب روح المسؤولية والرجولة والابتعاد عن أجواء الانحراف والمخدرات ، كما تشكل فرصة لتوعيتهم صحيـًا ومدنيـًا ، وتتضمن الدورات برامج لمحو الأمية وتعلم بعض المهارات الأخرى .
هذا ويقيم خارج لبنان عدد من الشبان الذين بلغوا سن التجنيد أو تجاوزوها ويخشون من العودة إلى وطنهم بسبب استحقاق الخدمة العسكرية ، لذا سنّ المسؤولون قانونـًا مفاده أن كل لبناني مغترب (في سن التجنيد) يقيم أكثر من عشر سنوات في بلاد الاغتراب ويرغب في زيارة لبنان ، عليه أن يحضر إفادة من السفارة اللبنانية في البلد الذي يقيم فيه ؛ تؤكد إقامته هناك أكثر من عشر سنوات ، وعند مجيئه إلى لبنان عليه أن يتقدم بها إلى أقرب قسم تعبئة ، فيعطى فورًا ترخيصـًا بالتجول على الأراضي اللبنانية لمدة ثلاثة أشهر ، ويخرج بعدها من لبنان دون أن يعترضه أحد .
مأساة الشباب وملهاة آخرين .
لا شك أن هذه الجولة السريعة تعكس صورة قاتمة من حياة الشباب ، جيل البناء ! وليس من فرق كبير بين الدول العربية في قضية التجنيد الإلزامي ، فيكاد المشهد الذي عرضناه ينسحب على كل مشاهد مسرح التجنيد في الحياة العربية .
ومن كان يتصور أن تتحول قضية "الوطنية" والدفاع عن الأرض والأهل والمال من قضية دينية عقيدية إلى مأساة متجددة باستمرار ؟! . ومن بوسعه أن يدرك كيف تحول جيل الشباب المفعم بالحيوية والنشاط والطموحات ، الذي هو القاعدة الأساسية في البناء والتنمية إلى جيل محبط ، مليء بالحسرة والندم على ما مضى من العمر ؟! . وكيف يمكن للطموحات أن تعيش في ظل الفساد العريض الذي يسود أجواء "الجيش" في بلادنا ؟! وهل دار في خلد الشباب العراقي مثلاً الذي دخل الجيش في سن 18 سنة 1980م أن يخرج منه في سن 28 سنة ، ثم يدخل في مأساة حرب الخليج الثانية المستمرة حتى الآن ؟! بين مأساة الشباب ، وملهاة آخرين تضيع الأوطان باسم الدفاع عنها ، فهل إلى خروج من سبيل ؟! .
ــــــــــــ
الحياة :13835