الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
رغم كثرة المشاكل التي تحيط بها.. إلا أن الهجرة تبدو قدرا لا فرار منه للشباب العربي، وفي سبيل هذه الخطوة يتكبد المهاجر كثيرا من العنت والمشقة، سواء كان هدفه الحصول على وظيفة، أم بناء ثروة، أو الحصول على مؤهل علمي. وعندما وقعت واقعة الحادي عشر من سبتمبر فكر كثيرون أنه آن الأوان للطيور العربية المهاجرة أن تعود إلى أوطانها، وملأ المتفائلون وسائل الإعلام حديثا عن الطفرة التي يمكن أن يحدثها هؤلاء في مجتمعاتهم والتي يمكن أن تحول العالم العربي إلى صورة مستنسخة من الحضارة الغربية. ولكن الشهور توالت ولم تعد الطيور إلى أوكارها، وفضلت أن تبقى حيث حطت في أوربا أو في أمريكا، متحملة طوفان التحيز والعنصرية والتصرفات العدائية بسبب الدين أو العرق، على أن تعود إلى أوطان قررت هجرها برضاها!! وقبل أن نتسرع في ظلم الشباب يجب أن نسجل أن ظروفًا علمية وعملية قاسية تضطرهم رغما عنهم إلى اتخاذ هذه الخطوة، فالمناخ العام لا يشجع على الإبداع ولا يحفل بتطلعات الشباب. توقفت أمام دراسة عجيبة قرأتها عن شباب العلماء في مصر.. تسجل هذه الدراسة أن هناك أكثر من 70 ألف عالم وباحث في مصر تتعدى نسبة الشباب بينهم80%، ورغم ذلك فإن الهجرة هي الحلم الذي اعترف به 88% منهم. استوقفني الرقم.. هل يمكن وصم كل هؤلاء، وهم خيرة المتعلمين في أكبر بلد عربي، بضعف الانتماء أو نقص الوطنية ؟.. بالطبع لا، فعندما تقرأ بقية المعلومات التي تضمنتها الدراسة تكتشف أن الخروج كان وسيلتهم الوحيدة للحفاظ على مستقبلهم العلمي، فالإنفاق على البحث العلمي في مصر لا يتعدى 1% من الناتج القومي للدولة، وهو رقم لا يكاد يكفي توفير مرتبات هزيلة لهذا الجيش من شباب العلماء والباحثين، في حين أن دولة مثل السويد تنفق 3.4% من ناتجها القومي، وهو أكبر كثيرا من الناتج المصري، وينفق منه على عدد من العلماء أقل كثيرا من العلماء في مصر. وحسب إحصاءات أكاديمية البحث العلمي المصرية فإن متوسط نصيب الفرد من الإنفاق العلمي لا يتعدى 17 جنيها سنويا، وهو رقم لا يزيد عن 3 دولارات. وفي لقاء صحفي مع أحد شباب الباحثين قال إن راتبه الشهري لا يتعدى بعد 15 عاما من العمل في مجال البحث مبلغ 1000 جنيه، وهو لا يكفيه لشراء الكتب أو للمشاركة في جمعيات علمية أو الاشتراك في دوريات متخصصة، بل لا يكفي الطعام والشراب، فإذا قرر هذا الشاب الهجرة إلى الغرب فإن هذا الراتب يستطيع أن يحصل عليه مقابل ساعات عمله في يوم واحد. وقال هذا الباحث: إن النظم التي يجري تطبيقها على أي موظف في ديوان الحكومة هي نفسها التي يلزم بها الباحثون، فهو مضطر للحضور والانصراف في المواعيد المقررة يوميا، ولكنه غير مطالب بالتوصل إلى إنجاز عملي، والراتب الذي يتم تقديره له لا يعطيه أي شعور بالتميز، أو حتى بالأمان والقدرة على التفرغ بدأب لإنجاز حلمه ومواصلة بحثه. البيروقراطية معوق آخر دفع هؤلاء الشباب إلى الهجرة، فبعضهم حكى رحلة امتدت 5 شهور ليتمكن من الحصول على ترخيص لاستيراد مادة كيميائية يحتاج إليها في بحثه، وطوال هذه الرحلة لم يكن يفعل شيئا إلا التوقيع على أوراق ثم أوراق، ولا شأن له بالمعمل. أما أكبر الإحباطات التي تعترض طريق شباب الباحثين وتدفعهم إلى الطيران خارج حدود الوطن، فهي تلك العزلة التامة بين ما يقومون به وبين المجتمع، وذلك الجدار السميك بين البحث العلمي والتطبيقات العملية.. فالأبحاث -في معظم جامعات ومعاهد الدول العربية- وسيلة للحصول على شهادة أو ترقية، وإذا حاول الشاب أن يخرج بهذه الأبحاث إلى النور لإفادة المجتمع تصدى له أعداء النجاح والبيروقراطيون، فوضعوا أمامه ألف عائق وكأن خدمة المجتمع جريمة يستحق عليها العقاب !! هل لنا أن نتخيل كيف سيكون مصير العالم المصري الدكتور أحمد زويل لو أنه لم يغادر مصر في شبابه إلى المعامل ومراكز الأبحاث الأمريكية ؟ الحقيقة المؤكدة أنه ما كان ليصل إلى ما وصل إليه وحصل به على "نوبل"، والنجاح الوحيد الذي كان سيتمكن من إنجازه يتلخص في عمادة كلية أو رئاسة جامعة. قبل أن نطالب الشباب المهاجرين بالعودة إلى أوطانهم ينبغي لنا أولا أن نتأكد أننا غيرنا المناخ السائد، وأوجدنا البيئة المناسبة للإبداع، وأن نتأكد أن البحث العلمي صار بندا مطروحا على خريطة التنمية العربية بصورة جدية وواقعية تتعدى استخدامها الحالي في الدعاية والتجميل.