الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (خسر) في القرآن الكريم

لفظ (خسر) في القرآن الكريم

لفظ (خسر) في القرآن الكريم

قال في (معجم مقاييس اللغة): الخاء والسين والراء أصل واحد، يدل على النقص؛ فمن ذلك: الخُسْر والخسران، كالكفر والكفران، والفُرْق والفرقان. ويقال: خَسَرْتُ الميزان وأخْسَرْتُهُ، إذا نقصته. و(التخسير) الإهلاك. و(الخسار) و(الخسارة) بفتح الخاء: الضلال والهلاك. وقال الراغب في (المفردات): "الخُسْر والخسران: انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان، فيقال، خسر فلان، وإلى الفعل، فيقال: خسرت تجارتُه، قال تعالى: {تلك إذا كرة خاسرة} (النازعات:12) ويُستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة، كالمال والجاه في الدنيا، وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية، كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين، فقال: {الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (الزمر:15)". قال الراغب: "وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن، فهو على هذا المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالمقتنيات الدنيوية والتجارات البشرية".

ولفظ (خسر) ورد في القرآن الكريم خمساً وستين (65) مرة، ورد ثماني عشرة مرة بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} (يونس:45)، وجاء بصيغة المصدر ثماني (8) مرات، من ذلك قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر:2) وجاء بصيغة اسم الفاعل ثلاثاً وثلاثين (33) مرة، من ذلك قوله عز وجل: {فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} (البقرة:64) وجاء بصيغة اسم التفضيل أربع (4) مرات، من ذلك قوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} (الكهف:103) وجاء على صيغة تفعيل مرة واحدة، وذلك قوله عز وجل على لسان صالح مخاطباً قومه: {فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} (هود:63) وجاء على صيغة (مُفْعِل) مرة واحدة، وذلك قوله تبارك وتعالى: {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين} (الشعراء:181).

وواضح أن لفظ (خسر) بمشتقاته أكثرُ ما ورد في القرآن الكريم على معنى الخسارة المعنوية، كخسارة النفس، والثواب، والعمل، ونحو ذلك، ما نوضحه آتياً من خلال الوقوف على عدد من الآيات الناصة على (الخسارة).

قال سبحانه: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} (الأنعام:12) المعنى -بحسب ابن عاشور-: "خسروا أنفسهم أضاعوها، كما يضيع التاجر رأس ماله، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع. فمعنى {خسروا أنفسهم} عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم، وهو العقل والتفكير، فإنه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور. وذلك أنهم لما أعرضوا عن التدبر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر. فعدم الإيمان مسبب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع. ويتسبب عن عدم الإيمان خسران آخر، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وذلك يقال له خسران، ولا يقال له خسران الأنفس. وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} (هود:21-22).

وقال تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون} (الأنعام:31) ونحوها قوله عز من قائل: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} (يونس:45) أي: بالعرض على الله. قال القرطبي: "ويجوز أن يكون هذا إخباراً من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي: خسروا ثواب الجنة. وقيل: خسروا في حال لقاء الله؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يُرجى فيها إقالة، ولا تنفع توبة".

ومن الذين كانوا من فريق الخاسرين، من أخبر عنهم سبحانه بقوله: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} (الأنعام:140) قال الطبري: "قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذب، العادلون به الأوثان والأصنام، الذين زين لهم شركاؤهم قَتْل أولادهم، وتحريم ما أنعمم به عليهم من أموالهم، فقتلوا طاعة لها أولادهم، وحرموا ما أحل الله لهم، وجعله لهم رزقاً من أنعامهم، وقد فعلوا ما فعلوا من ذلك جهالة منهم بما لهم وعليهم، ونقص عقول، وضعف أحلام منهم، وقلة فهم بعاجل ضره وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم، تكذباً على الله، وتخرصاً عليه الباطل، وقد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك، وزالوا عن سواء السبيل، ولم يكن فاعلو ذلك على هدى واستقامة في أفعالهم، التي كانوا يفعلون قبل ذلك، ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له". قال ابن عاشور: "وتحقيق الفعل بـ (قد) للتنبيه على أن خسرانهم أمر ثابت، فيفيد التحقيق التعجيب منهم، كيف عموا عما هم فيه من خسرانهم...ووَصْفُ فعلهم بـ (الخسران) لأن حقيقة الخسران نقصان مال التاجر، والتاجر قاصد الربح وهو الزيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عمل لأجله؛ ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الذين يعملون طلباً لمرضاة الله وثوابه، فيقعون في غضبه وعقابه؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم، فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله، ذلك أن هؤلاء الذين قتلوا أولادهم، قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلص من أضرار في الدنيا، محتمل لحاقها بهم من جراء بناتهم، فوقعوا في أضرار محققة في الدنيا وفي الآخرة، فإن النسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به، ويجدونه لكفاية مهماتهم، ونعمة على العالم كله بكثرة من يعمره، وبما ينتفع به الناس من مواهب النسل وصنائعه، ونعمة على النسل نفسه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها. ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التناسل، حفظاً للنوع، وتعميراً للعالم، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهب تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حق البنت، الذي جعله الله لها، وهو حق الحياة إلى انقضاء الأجل المقدر لها، وهو حق فطري لا يملكه الأب، فهو ظلم بيِّنٌ لرجاء صلاح لغير المظلوم، ولا يضر بأحد لينتفع غيره".

وقال ابن كثير في المراد من الآية: "قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم عليه، كقوله تعالى: {قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} (يونس:69-70)".

وأخبر سبحانه عن خسارة الذي يعبده في الشدة، وينساه في الرخاء، وذلك قوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} (الحج:11) ذكر الطبري أن أعراباً كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام، وإلا ارتدوا على أعقابهم، فقال الله {ومن الناس من يعبد الله} على شك، فإن أصابه سعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا، استقر بالإسلام، وثبت عليه، وإن أصابه ضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا، ارتد فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله...روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الفتنة) البلاء، كان أحدهم إذا قدم المدينة، وهي أرض وبيئة، فإن صحَّ بها جسمه، ونُتِجَتْ فرسه مهراً حسناَ، وولدت امرأته غلاماً، رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان، فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة". قال ابن عاشور: "وهذا كله ناشئ عن الجهل، وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجَعْل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبر عن ذلك قوله تعالى: {خسر الدنيا والآخرة} إذ لا يهتدي إلى تَطَلُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ من أسبابها".

وصرح سبحانه أنه لن يقبل من عباده إلا دين الإسلام، وأن من {يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران:85) فمن يطلب ديناً غير دين الإسلام ليدين به، فلن يَقبل الله منه، وهو في الآخرة من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل. ومن هذا القبيل ما جاء في قوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} (المائدة:5) فمن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، فقد بطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله، وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعملهم بغير طاعة الله. وهكذا، فمن يدين لله بغير دين الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول؛ لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصاً وانقياداً لرسله، فما لم يأت به العبد، لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل، فمن دان بغير دين الإسلام، فهو لم يدن لله حقيقة، لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله.

وحذر عز وجل عباده المؤمنين من طاعة الذين كفروا، ورتب على طاعتهم الخسران، {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} (آل عمران:149) المراد من الخطاب أن طاعة الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى -في ما يأمرونكم به، وفي ما ينهونكم عنه- بقبول رأيهم في ذلك، وطلب النصح، في ما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون، فإنهم يحملوكم على الردة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام، فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم. فسبحانه ينهى عباده المؤمنين به أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم، وينتصحوهم في أديانهم؛ إذ في طاعتهم والاستماع لنصحهم خسارة أي خسارة! قال ابن كثير: "يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة". فالآية -كما قال السعدي- "نَهْيٌ من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم، لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم قصدهم ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران".

وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} (فصلت:23) أي: هذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا أرداكم، يعني أهلككم. قال ابن عاشور: "(الإرداء) الإهلاك، يقال: ردي كرضي، إذا هلك، أي مات، و(الإرداء) مستعار للإيقاع في سوء الحالة، بحيث أصارهم مثل الأموات، فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك، ولم تُرْدِكُمْ شهادة جوارحكم حتى تلوموها، بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم، فلم تحذروا عقابه. وقوله: {فأصبحتم من الخاسرين} تمثيل لحالهم؛ إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله، ووثقوا من تحصيل سعادتهم، وهم ما عرفوا الله حق معرفته، فعاملوا الله بما لا يرضاه، فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعد للربح، فوقع في الخسارة. والمعنى: أنه نعى عليهم سوء استدلالهم، وفساد قياسهم في الأمور الإلهية، وقياسهم الغائب على الشاهد، تلك الأصول التي استدرجتهم في الضلالة، فأحالوا رسالة البشر عن الله، ونفوا البعث، ثم أثبتوا شركاء لله في الإلهية، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا، وأَمْنُهُمْ من التبعات في الحياة الدنيا. وقد ألمح ابن عاشور إلى أنه "قد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام، وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع".

وأخبر سبحانه عن الذين فرطوا في حق الله تعالى، بترك عبادته، والتزام شريعته، {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} (الأعراف:9) المراد أن من خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباع أمره ونهيه، فأولئك الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون، فلا يقرون بصحتها، ولا يوقنون بحقيقتها. ونحو هذه الآية قوله عز وجل: {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} (المؤمنون:103) أي: ومن خفت موازين حسناته، فرجحت بها موازين سيئاته، فأولئك الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، فهم في نار جهنم. قال ابن عاشور: "الخسران حقيقته ضد الربح، وهو عدم تحصيل التاجر على ما يَسْتَفْضِلُهُ من بيعه، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النفع، فمعنى {خسروا أنفسهم} فقدوا فوائدها؛ فإن كل أحد يرجو من مواهبه، وهي مجموع نفسه، أن تجلب له، النفع وتدفع عنه الضر: بالرأي السديد، وابتكار العمل المفيد، ونفوس المشركين قد سولت لهم أعمالاً كانت سبب خفة موازين أعمالهم، أي سبب فَقْدِ الأعمال الصالحة منهم، فكانت نفوسهم كرأس مال التاجر الذي رجا منه زيادة الرزق، فأضاعه كله، فهو خاسر له، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم؛ إذ أوقعتهم في العذاب المقيم. وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب، وهم يحسبون أنهم يلقونها في النعيم، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح، فأصيب بالتلف، فأطلق على هذه الهيئة تركيب {خسروا أنفسهم}". قال السعدي: "كل خسارة، غير هذه الخسارة، فإنها -بالنسبة إليها- سهلة، ولكن هذه خسارة صعبة، لا يُجبر مصابها، ولا يُستدرك فائتها، خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية، ففوتها هذا النعيم المقيم، في جوار الرب الكريم".

ومن الخاسرين يوم القيامة الذين ذكرهم القرآن، {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} (البقرة:27) قال الطبري: "والذي رغب الله في وصله، وذم على قطعه في هذه الآية: الرحم، وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} (محمد:22) وإنما عنى بـ (الرحم)، أهل الرحم الذين جمعتهم، وإياه رحم والدة واحدة. وقَطْعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجب من برها. ووصلها: أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها". وروى الطبري عن ابن جريج في قوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لم تمش إلى ذي رحمك برجلك، ولم تعطه من مالك، فقد قطعته". وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد، وقطع الرحم، والإفساد في الأرض. وقوله تعالى في ختام الآية: {أولئك هم الخاسرون} {الخاسرون} جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كانوا إلى رحمته.

قال أبو العالية في قوله تعالى: {والذين ينقضون عهد الله} (هي ست خصال في المنافقين، إذا كان فيهم الغلبة على الناس، أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الغلبة عليهم، أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا). ونحو هذه الآية قوله تعالى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} (الرعد:25) قال السعدي: "فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام، ولا أدوا الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصد عن سبيل الله وابتغائها عوجاً، {أولئك لهم اللعنة} أي: البعد والذم من الله وملائكته وعباده المؤمنين، ولهم الجحيم بما فيها من العذاب الأليم".

هذا، والخسارة ليست محصورة في الأنفس فحسب، بل تلحق أيضاً الأهل يوم القيامة، {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (الزمر:15) قال الطبري: "إن الهالكين الذين غبنوا أنفسهم، وهلكت بعذاب الله أهلوهم مع أنفسهم، فلم يكن لهم إذ دخلوا النار فيها أهل، وقد كان لهم في الدنيا أهلون". فخسرانهم أهليهم هو مثل خسرانهم أنفسهم؛ وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر، كما أوقعوا أنفسهم فيه، فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة، ولم ينفعوهم {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} (عبس:37)، وهذا قريب من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} (التحريم:6) فكان خسرانهم خسراناً عظيماً.

ومن مظاهر الخسارة يوم القيامة ما ذكره سبحانه في قوله: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} (الجاثية:27) {المبطلون} الآتون بالباطل في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم؛ إذ الباطل ما ضادَّ الحق. والمقصود منه ابتداء هنا، هو الشرك بالله؛ فإنه أعظم الباطل، ثم تجيء درجات الباطل متنازلة، وما من درجة منها إلا وهي خسارة على فاعلها بقدر فعلته، وقد أنذر الله الناس، وهو العليم بمقادير تلك الخسارة. فيوم يجمع سبحانه الخلائق لموقف القيامة، يحصل الخسار على المبطلين، الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وكانت أعمالهم باطلة، لأنها متعلقة بالباطل، فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين به الحقائق، واضمحلت عنهم، وفاتهم الثواب، وحصلوا على أليم العقاب.

وعن الخسران المادي يقول تعالى: {ولا تكونوا من المخسرين} الذين ينقصون الناس أموالهم، ويسلبونها ببخس المكيال والميزان، أي: إذا دفعتم للناس، فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصاً، وتأخذوه إذا كان لكم تامًّا وافياً، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون. قال ابن عاشور: "وصَوْغُ {من المخسرين} أبلغ من (لا تكونوا مخسرين) لأنه يدل على الأمر بالتبرؤ من أهل هذا الصنيع".

وقوله تعالى مقسماً بالزمان الذي به حياة الإنسان: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر:1-3) قال السعدي: (الخسار) مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خساراً مطلقاً، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه، لا يتم إلا به. والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة. والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه. والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. فبالأمرين الأولين، يُكَمِّلُ الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة