عبقرية الإمام البخاري رحمه الله برزت في الصنعة الحديثية العالية، وقد برزت عبقريته أيضا في الفقه والاستنباط، فالتراجم التي بوب بها أظهرت فقها وعمقا للمعاني وأنواع الدلالات، والسياقات، حتى قيل: "فقه البخاري في تراجمه"، ومن خلال منهجيته التي تحدث عنها العلماء في تلك التراجم يبرز عمقه ووفقهه.
قال ابن حجر في هدي الساري عن تراجم البخاري: "استخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة، فرَّقها في أبواب الكتاب بحسب تناسُبِها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة".
عناية العلماء بتراجم البخاري:
لقد كانت تلك التراجم مادة علمية ثمينة، تناولها الشراح بالتحليل والتأمل في مضامينها وتلميحاتها وإشاراتها، حتى أفردها بعض العلماء بمصنفات مستقلة، منها:
- "المتواري على تراجم البخاري" لابن المنير.
- "فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة" للعلامة محمد بن منصور ابن حمامة المغربي.
- "ترجمان التراجم" لابن رشيد السبتي، ولم يتمه، قال عنه الحافظ ابن حجر: وصل فيه إلى كتاب الصيام ولو تم لكان في غاية الإفادة وأنه لكثير الفائدة مع نقصه.
- "مناسبات تراجم البخاري" لابن جماعة.
- "شرح تراجم أبواب صحيح البخاري". شاه ولي الله الدهلوي.
أنواع التراجم في صحيح البخاري:
قسم الحافظ ابن حجر التراجم إلى قسمين: ظاهرة وخفية، فالظاهرة هي التي تتطابق مع ما تحتها من الروايات بحيث يتضح مأخذها من لفظ الحديث، أو معناه الظاهر، مثل قول البخاري: (باب الماء الدائم) ثم أخرج فيه الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» وأما الخفية فهي التي تدرك مطابقتها لمضمون الباب بوجه من البحث والتفكير القريب أو البعيد.
أما صور التراجم وأساليبها فكثيرة، ومنها على سبيل المثال:
الترجمة بآية قرآنية، ويكون المقصود من ذلك تقوية تأويل الآية، والاستدلال بها على حكم شرعي.
1. أن يورد الترجمة بقول لبعض العلماء، ويذكر في الباب ما يدل عليه قائلا: (باب من قال كذا، أو من رأى كذا) ولا يصرح بالقائل، ويكون مقصود مثل هذه التراجم إثبات ذلك القول، والانتصار له.
ومن أمثلته قول الإمام البخاري: باب من رأى الهبة الغائبة جائزة، وأورد حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن، قام في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإن إخوانكم جاءونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك، فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا»، فقال الناس: طيبنا لك.
ووجه الترجمة أنهم وهبوا قسمهم من الغنائم قبل أن تقسم، فاستدل بذلك على جواز الهبة ولو كان الموهوب غائبا.
ومن الأمثلة على ذلك: باب من رأى: إذا اشترى طعاما جزافا، أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك، وأورد حديثا عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبتاعون جزافا» يعني الطعام، يضربون أن يبيعوه في مكانهم، حتى يؤووه إلى رحالهم.
2. ومن أساليب التراجم، الإشارة إلى حكم فقهي لا يدل عليه لفظ حديث الباب، وإنما يدل عليه رواية أخرى، مثل قوله: باب الشِّعر في المسجد، ثم أورد حديثا ليس فيه التصريح بالمسجد، قال ابن بطال في شرحه على البخاري: ليس في حديث الباب أن حسان أنشد شعرا في المسجد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لكن رواية البخاري في بدء الخلق من طريق سعيد تدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم لحسان أجب عني كان في المسجد.
3. ومن الأساليب: الترجمة بما يظنه القارئ قليل الفائدة، لكن بعد التأمل يدرك ما يلغز إليه البخاري، كتبويبه بقوله: (باب الصلاة على الحصير، فهو يقصد الرد على من كره ذلك، وهذا يقع كثيرا.
4. ومن أساليبه: الترجمة على حديث لم يروه في الصحيح، لكون الحديث الذي يشير إليه ليس على شرطه، كما ترجم لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد» بقوله: (باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر)، قال ابن رشيد البستي في ترجمان التراجم على أبواب البخاري: جرى المصنف على مادته إما بالإشارة إلى ما ليس على شرطه، وقال الحافظ ابن حجر: ورود ذكر الثلاثة في هذه القصة عن أنس أيضا عند الترمذي وغيره عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقالوا أصابنا قرح وحمد، قال: «احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر» صححه الترمذي والظاهر أن المصنف أشار إلي هذا الحديث.
5. ومن الأساليب: الترجمة المرسلة، وذلك بحيث يذكر الباب من غير تسمية، وإنما يكتفي بقوله "باب" ثم يورد الحديث، وهذا يفعله حينما يكون الحديث متصلا بالباب الذي قبله، وإنما يفرده بالتبويب لمزيد فائدة فيه.
6. ومن الأساليب: الترجمة المفردة، بحيث يذكر الترجمة، ثم لا يخرج شيئا من الحديث للدلالة عليها، مثال ذلك قوله: "باب يستقبل بأطراف رجليه القبلة"، قاله أبو حميد الساعدي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله: "باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا}، قال الحافظ ابن حجر: وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معها أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطي.