ما ألذه، وما أهنأه، وما أحلاه! يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب، فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم.
وإذا كان كل الناس يحتاجونها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناء مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطّروا من عُصارة عقولهم.
وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن وصحة التفكير، وجودة الإنتاج؛ فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها العين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها لا بنفسها.
ولا تفتن وردة بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى أصلها منعمًا بظلامه وسكونه، فإذا أقلقْتَ مضجعها وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها.
وكذلك كل حي لا بد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء؟ دع الحي يحيا أيامًا من غير نوم؛ تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي.
وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهًا نائمًا، شاعرًا حالمًا، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، ويتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه بالفكرة الناضجة أو الخَطْرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة فتكون خيرًا من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب.
قرأت مرة أنَّ متعلمًا كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكرًا فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة، حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ؛ فقال له أستاذه: ومتى تفكر؟ وأين تجد نفسك؟
وهو سؤال له دلالته ومغزاه. فأكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون يفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم.
ولأمر ما كان النبي ﷺ "يخلو بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء".
في غار حراء حيث السكون والظلام، بعيدًا عن الخلق قريبًا إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيأ للوحي فنزل عليه الوحي.
يقول أحمد أمين في كتابه الماتع (فيض الخاطر): "لكَمْ تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خلوات مهيأة في أمكنة نزهة منقطعة ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يَسْتَجِم نفسه ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدنية، وجلبة الحياة العصرية — تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويبعث إلى العالم خلقًا جديدًا كما يبعث النوم الحياة — إذًا لقلَّت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب؛ وإذًا لقل إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشئونها، فإذا تجرد المرء منها زمنًا وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام، تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته؛ وإذًا لقلت مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر".
لقد اعتاد الناس أن يفروا من عنائهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطيء الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم، ولا تفيد — كثيرًا — الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها — عادة — كل مظاهر المدنية وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناءً صحيحًا في العلاج النفسي والروحي، إنما يغني هذا الغناء أنواع المعاهد والمؤسسات قد بنيت على أساس نفسي وروحي لا تعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، تريح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، وتسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات، فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة، وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها.
يقول أحد الأدباء: "في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء؛ على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بأذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويدرك معاني المياه في خريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها؛ فكأنه منح من الحواس أضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته؛ وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله، ويثلم ذوقه؛ فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت؛ ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا أقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون؛ ولئن كانت عيوننا الباصرة لا تبصر إلا في ضياء، وآذاننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما تستعين بالضوء والهواء".
ويقول صاحب فيض الخاطر أيضا:" إني لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل، بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين يقضون نهارهم في وظائفهم وأعمالهم، ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضًا لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم، ثم لهو قليل ونوم.
وأعتقد أن هناك عنصرًا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل؛ ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما أعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله: [قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق عن الغرب قديمًا، ومن ثم كان مبعث الأديان ومصدر الإلهام".
في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها، على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم.
ويقترح بعض المفكرين على وزارات التعليم وضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بيائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يؤجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، إنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس، وليست تحتاج إلا إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك.
أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام، ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها، واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك، وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟
وتدرجْ من هذا التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم. وارقَ إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك: ما غايتك وما مبادئك في الحياة؟ وهل وضعت لها خططًا؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟
سيسلمك ذلك — من غير شك — إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية .. فلسفة شخصية قد بنيت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع و تدرج أرقى.
ربما كان هذا ضربًا من الاهتمام بالصحة النفسية يتفق وروح العصر، بخلاصات إسلامية، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم.
ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدنية الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت.
ولعلنا نستروح من هذا البرنامج نسيم الراحة فيرجع نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا.