أرسل الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى العالمين، وجعله رسولا خاتما إلى أهل الأرض أجمعين، وكانت بداية رسالته ومبتدأ دعوته من مكة مع قومه قريش حيث نزل الوحي وبدأ الدين.
فلما دعاهم إلى الله وجدهم مشركين كافرين، ووجد مع ذلك عقائد فاسدة، وقلوبا قاسية، وأفكارا بالية، وأخلاقا ردية.
وجد نفوسا تعيش على أصول الجاهلية وقواعدها، وقلوبا أشربت عاداتِها وأخلاقَها، فلا يقبلون التحاكم إلا إلى أعرافها وقوانينها، وإلى مبادئها وأصولها.. قد تألهت قلوبهم الأصنام، ورضيت بعبادة الحجارة والأوثان، وامتلأت بحبها وتعظيمها فهي تبذل في سبيلها النفوس والأرواح والأموال.
كانوا مع ذلك يأكلون الميتة، ويشربون الخمور، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، وكان أحدهم يربي كلبه ويقتل ولده، كانوا يئدون البنات وهن أحياء بدفنهن في التراب، وكانت تقوم الحروب بينهم على أتفه الأسباب، ويأكل القوي منهم الضعيف..
كانوا يعيشون وثنيةً فاحشةً، وشهواتٍ جامحةً، وطبقيةً مجحفة، وأخلاقا جاهلية..
فكيف سيعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه الأمراض، ويصحح كل هذا الانحراف في العقائد والأفكار والتصورات، وكيف سيقيم اعوجاج كل هذه الأخلاق؟
لم يكن هناك سبيل إلا التربية والتزكية واتباع سنة التدرج، لتخليص هذه النفوس من شوائبها، وتطهيرها من غوائلها، واستخراجها من مستنقع الجاهلية إلى طهارة الإسلام ونور الإيمان، وطاعة الرحمن.
ولو أن الله تعالى أمرهم وهم على هذا الحال أن يتركوا الخمر والميسر، أن يتركوا الزنا، وأن يدعوا ما هم عليه من أخلاق الجاهلية لما قبلوا ذلك، ولا رضيت نفوسهم به.. وقد بينت عائشة رضي الله عنها ذلك في حديث البخاري قالت: "إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ من القرآن سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، (تعني سورة المدثر)، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا، لقَدْ نَزَلَ بمَكَّةَ علَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ".
من أجل هذه التربية
اختار لهم دار الأرقم بن أبي الأرقم، يجمعهم فيها يتلو عليهم آيات القرآن، ويعلمهم الإيمان، ويطهر قلوبهم، ويزكي نفوسهم، ويعيد صياغة أخلاقهم وأفكارهم، وترتيب أولوياتهم ومقاصدهم.. فكان يعلمهم الإيمان قبل القرآن، ثم يعلمهم القرآن.. فتعلموا الإيمان والقرآن والعلم والعمل جميعا.
من أجل هذه التربية:
فرض الله عليهم قيام الليل سنة كاملة، يقومون الليل كله أو نصفه أو ثلثه: قبل أن ينزل التخفيف: كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ افترضَ قيامَ اللَّيلِ في أوَّلِ هذِهِ السُّورةِ فقامَ نبيُّ اللَّهِ وأصحابُهُ حولًا حتَّى انتفخَت أقدامُهم وأمسَكَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ خاتمتَها اثنَى عشرَ شَهرًا ثُمَّ أنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ التَّخفيفَ في آخرِ هذِهِ السُّورةِ فصارَ قيامُ اللَّيلِ تطوُّعًا بعدَ أن كانَ فريضةً".
وإنما كان ذلك لتربية هذا العصبة المؤمنة وإعدادا لها لتحمل مشاق الدعوة وتبعات التكليف.
ومن أجل هذا التربية
تميز القرآن المكي ببناء العقيدة، وترسيخ الإيمان، وكثرة الحديث عن الله تعالى وقدرته وعظمته وأفعاله، وأكثر من ذكر قصص الأنبياء وابتلاءات السابقين، وكيف نصرهم الله على أعدائهم، وأكثر أيضا من ذكر الجنة والنار، ليرغبهم في العمل للجنة ونعيمها، ويرهبهم من كل ما يؤدي بهم إلى النار وجحيمها وأليم عقابها.
ومن أجل هذه التربية أيضا
أُمر المسلمون في أول الأمر بالعفو والصفح بكف الأيدي وعدم رد الاعتداء بالاعتداء {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[النساء:].
كل ذلك حتى لا ينشغلوا بالمعارك الجانبية، ويتفرغوا للتزكية والتربية، ويتعودوا الطاعة في المنشط والمكره، ويتعلموا ضبط النفس وعدم الانتصار إلا للحق والدين، وأن يقفوا مع أمر الله وأمر رسوله حيث كان ولو كان فيه أذى النفوس، وحتى تكون الحمية لله ولرسوله ولدينه لا للنفس والهوى.
صناعة الرجال:
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تتمثل سلوكا يراه الناس. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع رجالا، ويصيغ ضمائر، ويبني أمة، كان يعيد الصياغة ليخرج رجالا تلمسهم الأيدي وتراهم الأعين. ويطلق جيلا يتعامل مع الناس ويقول بالأفعال والأعمال والأخلاق هذا هو الإسلام الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى".
حاجتنا للتزكية
إن الجاهلية ليست مرحلة من التاريخ مرت وانتهت.. ولا هي وَصْفٌ وُصِفَ به قوم من الناس فلما ماتوا انتهى بزوالهم، وانقرض بوفاتهم.
وإنما الجاهليةُ عقائدُ وأفكار، وأخلاقٌ وتصورات، وقوانين وأوضاع، وأفعال وأعمال، إذا وجدت في شخص فهو جاهلي بقدر ما فيه من ذلك، وإذا وجدت في خلق فهو خلق جاهلي، أو حتى في عمل فهو عمل جاهلي.
وقد وصف الله تبارك وتعالى أمورا في كتابه، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته أشياء بأنها من أمر الجاهلية، فمتى وجدت وجد معها وصف الجاهلية.
. فالتحاكم لغير حكم الله من الجاهلية: قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:50].
. وخروج المرأة سافرة غير ملتزمةٍ بأمر الله لها بالحجاب هو من تبرج الجاهلية: قال تعالى: {وَلَا تبَرَّجنَ تبَرُّجَ الجَاهِليَّة الأُولَى}[الأحزاب: ].
. والتفاف الناس تحت أي راية قومية أو عصبية أو قبلية إنما هو من دعاوي الجاهلية، وكل دعوة تفرق المسلمين إنما هي دعوة جاهلية: فلما (كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ وقال المُهاجريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ قال: فسمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك فقال: (ما بالُ دَعْوى الجاهليَّةِ)؟... وقال: (دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ)[البخاري].
. وقد وصف النبي أمورا في الأمة ونسبها إلى أمر الجاهلية فقال: (أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ)[رواه مسلم].
. ولما عير أبو ذر رجلا من المسلمين بأمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ). فجعل السبُّ والشتْمُ والتعييرُ بلون أو صِفةٌ - مما لا يُعَيَّرُ به - عملا مِن أعمال الجاهليَّةِ.
حاجتنا إلى التزكية
لقد انتشر بين المسلمين في هذه الأزمنة أمورٌ من أمورِ الجاهلية، وصار البعض في تصوراتهم وأفكارهم وتصرفاتهم أشبه بالجاهليين، سواء كان في التعصب للعرق أو للقبيلة أو للبلد أو للوطن، أو الفخر على الناس بالحسب أو بالنسب أو بالمال والغنى، أو الكبر والاستطالة على الخلق، وكذلك التحزب والتعصب تحت رايات غير راية الإسلام، وتقديم الناس وتعظيمهم لغير التقوى والعمل الصالح.. كل هذا من أمور الجاهلية التي نحتاج جميعا، وتحتاج مجتمعاتنا أن تعيد تربية أنفسها وتزكيتها كما ربى النبي أصحابه للتخلص منها، والعودة إلى تعاليم الإسلام وأخلاق الإسلام وأن نكون مسلمين مؤمنين طائعين لله ورسوله، متبعين منهج الإسلام وشريعته.