لا شك أن اللغة لها تأثير كبير في الأفكار والعادات وتكوين العقلية، خاصة إذا فهمنا أن كل لغة تطبع أهلها بطابع خاص.
وتكوين ثقافات الأمم إنما ينتج من بيئتها الطبيعية، وإن شئت فانظر إلى تأثير اللغة العربية والأدب العربي في العرب.
ولا ريب أن هناك علاقة وطيدة بين الثقافة واللغة؛ فلا ثقافة بلا لغة، ولا لغة بلا ثقافة؛ فاللغة والثقافة مرتبطان معًا، لا تنفك إحداهما عن الأخرى.
ومعلوم أن اللغة تحتفظ بالتراث الثقافي جيلاً بعد جيل، وتجعل للمعارف والأفكار البشرية قيمها الاجتماعية.
إن نشأة الثقافة ونموها لا يتمان بدون اللغة التي تمكِّن الإنسان من تحقيق التعاون والاتصال مع غيره.
وقد أدرك الناس أن اللغة تسهم في توجيه التفكير لدى الإنسان؛ ولذلك كان من الضروري الاعتناء بها، وتوريثها إلى الأجيال اللاحقة؛ فاللغة هي مرآة ثقافة الأجيال الجديدة، وهي الوسيلة التي تستخدمها الشعوب للتعبير عن العناصر المختلفة للثقافة من عادات، ومفاهيم، وتقاليد، وقوانين.. فاللغة هي المرآة الحقيقية لثقافة أي شعب من الشعوب الإنسانية.
وقد قيل: اللغة هي الناطق الرسمي باسم الثقافة؛ لأن اللغة هي جزءٌ من الثقافة؛ فلا يمكن للإنسان من دونها أن يشرح للآخرين وجوه التميز الثقافي لدى أمته وشعبه.
إذن اللغة كائن حي منه تستمد الأمة مقوماتها ولذك قيل:
الحي حي بحياة لسانه فإذا أبيد لسانه أبيدا
وقد تفطن المفكرون لخطورة اللغة ودخولها في كل مفاصل الحياة، فنوهوا إلى ضرورة الاهتمام بها، وأن تولى عناية بعد عناية حتى تكون رافعة للدول والمجتمعات.
وإن تكلمنا عن لغتنا العربية على وجه الخصوص نجد أنها لغة ذات قابلية كبيرة للتطور، ومواكبة المستجدات؛ لما حباها الله من مرونة ، وكثرة اشتقاقات، وعمق جذر يمكن أن يتفرع منه كثير من الكلمات، وقد استطاعت في الماضي أن تستوعب الحضارات المختلفة الفارسية، واليونانية، والهندية، المعاصرة لها في ذلك الوقت، و أن تجعل منها حضارة واحدة، عالمية المنزع، إنسانية الرؤية، وذلك لأول مرّة في التاريخ البشري المسجل .
ولكنا اليوم نشهد تغول اللغات الأجنبية على حضارتنا ولغتنا، وغاراتها المتكررة لتنزع من لغتنا حاضنتها، وتسلبها حقها في البقاء والحياة؛ وذلك في كل ميادين الحياة، بدءً بالتعلم والدراسة بدعوى تقنيات العولمة الحديثة التي ترغب في ابتلاع ثقافات الشعوب العربية، والقضاء عليها.
ومناهجنا التعليمية التي أصبحت في جملة من بلدان العرب تدرس بغير لساننا، فيتخللها التغريب من داخلها، وتتهاوى حصونها على يد بنيها ممن تشربوا ثقافة الآخر من خلال لغته.
وإلى ميدان النظم الإدارية، والمكاتبات الحكومية، والمراسلات بين المؤسسات الاقتصادية والشركات التي أصبحت تجرى باللغة الإنجليزية، وفي بعض البلدان العربية تجاوز الأمر المؤسسات الأهلية إلى المؤسسات والدوائر الحكومية..
ولا يدعو أنصار اللغة العربية إلى ترك اللغات الأخرى، والانكفاء دونها، وإنما دعوتهم لإعطاء اللغة الأصلية حقها، وجعلها في الصدارة دوماً، ثم يأتي بعد ذلك مجال لغة ثانية وثالثة ....
وإذا نظرنا يعين الإنصاف لقلنا إن حرصنا على اللغة العربية لا يعني التقليل من حرصنا على تعلم اللغة الإنجليزية ونحن على يقين أن اللغة الإنجليزية لغة عالمية، وأصبح تعلمها ضرورة عصرية لمتابعة التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم.
مع العلم أن إتقان اللغة الأم هو الطريق الطبيعي المأمون لإتقان اللغة الثانية أو الثالثة، كما تشير إلى ذلك نتائج كثير من الأبحاث الميدانية في دول العالم المتقدمة.
ولتنفيذ هذه المهمة وهي دمج الثقافة باللغة العربية وتعزيز ذلك، لابد للقائمين على الثقافة من أن يكون لهم حظ وافر من اللغة العربية؛ حتى يحبوها، وتتيقن نفوسهم أنها قادرة على مواكبة كل حدث ثقافي، وكل جديد مستحدث.
ويطيب لي أن اقتبس بعضا مما ذكره أبو منصور عبد الملك الثعالبي في فضل لغة العرب وضرورة العناية بها، في مقدمة كتابه (فقه اللغة وأسرار العربية) قال رحمه الله تعالى : "من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها.. والإقبال عليها... إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين... ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب،... ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة،... لكفى بهما فضلا... إلى أن قال: ولما شرّفها الله تعالى عز اسمه وعظمها، ورفع خطرها وكرمها، وأوحى بها إلى خير خلقه، وجعلها لسان أمينه على وحيه، وخلفائه في أرضه، وأراد بقضائها ودوامها حتى تكون في هذه العاجلة لخيار عباده، وفي تلك الآجلة لساكني جنانه ودار ثوابه، قيض لها حفظة وخزنة من خير الناس وأعيان الفضل وأنجم الأرض، تركوا في خدمتها الشهوات وجابوا الفلوات، ونادموا لاقتنائها الدفاتر،... وكلما بدأت معارفها تتنكر أو كادت معالمها تتستر أو عرض لها ما يشبه الفترة، رد الله تعالى له الكرة، فأهب ريحها ونفق سوقها بفرد من أفراد الدهر أديب ذي صدر رحيب، وقريحة ثاقبة، ودراية صائبة، ونفس سامية، وهمة عالية، يحب الأدب، ويتعصب للعربية فيجمع شملها، ويكرم أهلها، ويحرك الخواطر الساكنة لإعادة رونقها، ويستثير المحاسن الكامنة في صدور المتحلين بها..."
ولعل الأيام القادمات تخرج لنا جيلا معتزا بالعربية، فلا عزة لأمة تأكل من سقط طعام غيرها، ولا عودة للعزة من غير الثقافة الأصيلة واللغة الجليلة لغة القرآن والعرب.