تعرّض النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ آمن معه مِن أصحابه رضوان الله عليهم في بداية البعثة النبوية إلى كثيرٍ مِن الأذى والاضطهاد من قِبَل قريش وزعمائها. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم استمرار كفار قريش في إيذاء وتعذيب أصحابه، أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: (إنَّ بأرض الحبشة ملِكاً لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرَجاً ومَخْرجاً مما أنتم فيه). وقد قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(النحل:41): "يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخِلان، رجاء ثواب الله وجزائه. ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكنوا مِن عبادة ربهم"، وقال قتادة: "المراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين".
والثابت من صحيح الأحاديث والسيرة النبوية أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة مرتين، وكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة النبوية، وبعد وصولهم ومقامهم بالحبشة سمعوا أن أهل مكة أسلموا، فعاد بعضهم إلى مكة، فلم يجدوا ما أُخْبِرَوا به صحيحاً فرجعوا ومعهم مجموعة أخرى إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، قال ابن حجر: "بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وكانوا أكثر من ثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية".
ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (بلغَنَا مخْرَجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمنِ، فخرجنا إليه أنا وأَخَوان لي أنا أصغَرُهم، أحدهما أبو بُرْدة والآخر أبو رُهْم، فركِبْنا سفينة، فألْقَتنا سفينَتُنا إلى النجاشيِّ بالحبشة، فوافقنا (صادفنا) جعفرَ بن أبي طالب، فأقَمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافَقنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين افتَتَحَ خيبر، وكان أناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عُمَيس على حفصة زوج النبي زائرة - وكانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر -، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: مَن هذه؟ قالت: أسماء ابنة عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ (آلحبشية بهمزة الاستفهام، نسبها إلى الحبشة لسكناها فيهم. قوله: (البحرية؟) بهمزة الاستفهام أيضا، نسبها إلى البحر لركوبها البحر)، قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضِبَت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يُطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء (البعداء في النسب، البغضاء في الدين) بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله، وايم الله (من ألفاظ القسَم) لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان (هجرة إلى النجاشي، وهجرة إليَّ)، قالت: فلقد رأيتُ أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا (أفواجا متتابعين)، يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: قالت أسماء: رأيتُ أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني) رواه البخاري.
لقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم سروراً بالغاً بعودة مهاجري الحبشة، ولم يمض وقت كبير حتى اكتسبوا وتعلموا ما فاتهم من علمٍ بالقرآن والسنّة، وانتظموا في مواكب الجهاد في سبيل الله مع النبي صلى الله عليه وسلم.
في هذا الموقف النبوي ـ مع ما دار بين أسماء بنت عميس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ـ فوائد كثيرة، منها:
1ـ التنافس على الخير من سمات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يتنافسون فيما بينهم في مرضاة الله تعالى، ويتحدثون بنعمة الله عليهم، وقد ظهر ذلك فيما دار بين عمر بن الخطاب وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما، وقول عمر: (سبقناكم بالهجرة)، ومِن فرح مهاجري الحبشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)، وقد قالت أسماء: (فلقد رأيتُ أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً، يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم).. وفي كل منهم فضل، فالذين هاجروا مع النبى صلى الله عليه وسلم نالوا نعمة وفضل الجهاد، فجاهدوا في بدر، وأحد، وبنى قينقاع، وبنى النضير، ثم تحملوا البلاء فى غزوة الأحزاب وحَفْر الخندق.. وفضْل مهاجري الحبشة أنهم كانوا فى غربة معزولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ووطنهم وأهلهم، ويعيشون في مجتمع غريب عليهم، لا تربطهم به وشائج رحِم ولا لغة، فضلاً عن كونه مجتمعاً نصرانياً يخالفهم في المعتقد، وكانوا مستضعفين في الأرض يبغون الجهاد ولا يدركونه.. وقد فصَل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بين عمر وأسماء رضي الله عنهما بقوله: (ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان) أي: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إليَّ في المدينة، فعظم الفرح بين مهاجرة الحبشة. قال القرطبي في "المفهم": "وقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحق بي منكم) يعني في الهجرة لا مطلقا. وإلا فمرتبة عمر رضي الله عنه وخصوصية صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة". وقال: "وقولها: (ما من الدنيا شيء هم أفرح به، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعني: ما من الدنيا شيء يحصل به ثواب عند الله تعالى هو في نفوسهم أعظم قدرا، ولا أكثر أجرا، مما تضمنه هذا القول".
2 ـ الإخلاص والنية الصالحة ترفع ثواب الأعمال، لأن أهل السفينة كُتب لهم بنيَّتهم الصالحة هجرتان، وقد قالت أسماء رضي الله عنها: (وذلك في الله وفي رسول الله).
3 ـ الجزاء مِن جنس العمل، ومَن ترك شيئاً لله عوضه الله أفضل منه، فمهاجروا الحبشة لما تركوا ديارهم وأموالهم لله عز وجل، رزقهم الله من حيث لم يحتسبوا، فقد أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في مغانم خيبر، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (قدِمنا فوافَقْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا - أو قال فأعطانا منها - وما قسَمَ لأحدٍ غابَ عن فتح خيبر منها شيئاً إلَّا لِمَنْ شَهِدَ معه إلَّا أصحاب سفينتنا جَعفرٌ وأصحابه فأسهم لهم معهم) رواه أبو داود.
4 ـ روى مسلم في صحيحه رواية لهذا الحديث والموقف النبوي، وذكر فيه أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت لعمر رضي الله عنه: (كذبْتَ)، قال القاضي عياض: "معناه: أخطأتَ، وقد استعملوا الكذب بمعنى الخطأ".
5 ـ ذهب بعض أهل السير إلى أن أبا موسى الأشعري كان مع مَن هاجروا إلى الحبشة من مكة، وهذا غير صحيح، قال ابن حجر: "وقد استُشْكِل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصداً النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة، فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكة فأسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله أعلم".
لقد كانت الهجرة إلى الحبشة ـ الأولى والثانية ـ فراراً من حالة الاضطهاد والإيذاء التي تعرض لها الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم، وقد أظهرت شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، حيث هو الذي أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة لما كانوا يلاقونه وحفاظاً عليهم، وقد رجع مهاجروا الحبشة حين فتح الله عز وجل على المسلمين خيبر، ففرح وسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقال: (ما أدري بأيِّهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!) رواه الحاكم. وقد بين النبي صلوات الله وسلامه عليه فضلهم وشرفهم بقوله: (ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من البعثة إلى الهجرة