أجمعت قريش أمرها على مواجهة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوة؛ لعلها تصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه عنها، وتمنع من تسول له نفسه اتباع رسول الله من أن يتبعه إذا ما رأى العذاب ينزل بالمسلمين، وكانت قد بدأت الإيذاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من دونه من أصحابه على اختلاف طبقاتهم ومكانتهم من قريش.
روى البخاري عن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا» فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]»، وعن عبد الله رضي الله عنه، قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد، وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع»، رواه البخاري. إلى غيرها من أنواع العذاب والأذى التي تعرض لها صلى الله عليه وسلم.
وتعرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشتى أنواع العذاب أيضًا، فمنهم من قتل، ومنهم من ضرب وجلد، ومنهم من كان يعذب على رمضاء مكة، ومنهم من عذب بالحرق، إلى غيرها من صنوف العذاب والأذى التي لم تزدهم إلا ثباتًا وصبرًا على دعوتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضهم على الثبات والصبر، ويعدهم النصر والظفر لهذه الدعوة، روى البخاري في صحيحه: عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
ربما يخطر ببال من يقف على نماذج من الأذى والعذاب الذي تعرض له المسلمون في مكة تساؤلات عن سبب ذلك العذاب، ولماذا لم ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه دون عذاب؟ ولماذا لم يمكَّن لهذا الدين إلا بعد أن دفع حملتُه الثمن أقساطًا من العذاب والأذى؟ إلى غيرها من التساؤلات المشابهة لذلك.
وعند الإجابة على ذلك لا بد أن يعي المسلم حقيقة وجوده في هذا الكون، وأنه عبد لله تعالى، وأن التكليف من مقتضى العبودية لله تعالى، والتكليف لا بد فيه من كلفة ومشقة، والدعوة إلى الله والمجاهدة لإعلاء كلمته من أهم متعلقات التكليف، ولا بد إذًا من مجاهدة النفس وتحمل مشاق الدعوة، وما يكون في طريقها من أذى؛ لتحقيق الغاية من هذا التكليف وهي الثبات على هذا الدين وبناء مجتمع إسلامي صحيح، أي أنه سبحانه قد كلفنا الغاية وهي الثبات على هذا الدين، وكلفنا الوسيلة إلى هذه الغاية، وتحمل ما في طريقها من مشاق وصعوبات، هذه هي سنة الله تعالى في الدعاة إلى دينه في كل زمان ومكان، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23].
ومن ذلك ندرك أن ما يلاقيه الدعاة إلى الله تعالى في سبيل نشر الدعوة وإقامة المجتمع المسلم؛ إنما هو سنة إلهية منذ فجر التاريخ وإلى قيام الساعة، تقتضيها ثلاث حكم هي:
الأولى: صفة العبودية الملازمة للإنسان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
الثانية: صفة التكليف المتفرعة عن صفة العبودية، فما من مسلم بالغ عاقل إلا وهو مكلف أن يقيم الإسلام في نفسه ومجتمعه، ويتحمل في سبيل ذلك ما يجده من شدة وصعوبة، حتى يحقق معنى التكليف.
الثالثة: إظهار صدق الصادقين، وكذب الكاذبين، فلو ترك الناس لدعوى الإسلام بألسنتهم فقط، دون محنة وابتلاء؛ لاستوى في ذلك الصادق والكاذب، ولكن الفتنة والابتلاء هي التي تميز الصادق من الكاذب، قال الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 1 - 3].
ولأجل ذلك كله أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوذي من قبله رسل الله وأنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم، ولأجل هذا أوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات من مات منهم على جلالة قدرهم، ورفيع منزلتهم عند الله تعالى.
وعليه لا بد أن يفقه الدعاة إلى الله وغيرهم أن وجود العقبات والأذى في طريق الدعوة؛ إنما هو دليل على أن السير في الطريق الطبيعي الصحيح، الذي خطه الله تعالى للمسلم والغاية التي أمره بالسير إليها، وأن المسلمين إنما يقربون إلى غايتهم تلك بقدر ما يجدون من البلاء في طريقها .
وهذا ينبغي أن يبعد عن المسلم كل يأس قد يقع في نفسه أو يتوهمه جراء ما يجد في طريقه من سدود وعقبات، بل يعي أن ذلك إنما هو الحال الطبيعي المنسجم مع طبيعة هذا الدين، ولهذا كان ابتلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سبيل هذه الدعوة، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].