من المقاصد التي جاء بها الإسلام تنظيمُ العلاقات الأسرية على أساس صحيح سليم، فأنزل في ذلك أحكامًا وتشريعاتٍ كثيرة، جاء قسم كبير منها في سورة النساء، ومن الأمور الأسرية التي جاء الإسلام لينظمها ويوقف العبث بها: قضية تعدد الزوجات.
وتعدد الزوجات ليس أمرًا حادثًا جاء به الإسلام ففرضه على المجتمعات، وإنما كان التعدد شائعًا في الأمم قبلنا، ولا سيما عند مشركي العرب الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله كان من بقايا دين إبراهيم عليه السلام الذي كانوا يدعون أنهم عليه، ولكن التعدد كان يسير عندهم على غير نظام وبلا قيد، فكان الرجل في الجاهلية ينكح المرأة والمرأتين، وما شاء من النساء دون وجود حد لذلك، وقد أسلم غيلان الثقفي رضي الله عنه وتحته عشر نسوة.
فجاء الإسلام بتشريعاته فنظم ذلك الحال، وجعل لتعدد الزواجات حدًا وشرطًا، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
وقد روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أن عروة بن الزبير سأل عائشة رضي الله عنهم عن هذه الآية فقالت: «إن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء؛ فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}»، وقالت عائشة رضي الله عنها في تفسير الآية أيضًا: "هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن".
فالآية أباحت لذلك الرجل الذي يخاف على نفسه ألا يعدل في اليتيمة التي كانت في حجره أن ينكح غيرها من النساء، مثنى وثلاث ورباع، ولكن العبرة -كما يقول الأصوليون- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية تشمل ذلك الرجل وغيره من المسلمين إلى يوم القيامة، فيباح لكل الرجال أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء إلى أربع نسوة من الحرائر، بشرط إقامة العدل بينهن على ما ذكره الفقهاء في كتبهم، وأما من لم يكن قادرًا على إقامة العدل فالشريعة أوجبت عليه الاقتصار على زوجة واحدة.
فوضعت بذلك شريعة الإسلام حدًا لعدد الزوجات وهو أربعٌ، وشرطًا وهو إقامة العدل بينهن، قال صلى الله عليه وسلم لغيلان الثقفي الذي أسلم عن عشر نسوة: «اختر منهن أربعًا» رواه الترمذي. كما أمرت شريعتنا بالعدل في كل شيء، لا سيما في حق الأواصر التي يقوم عليها المجتمع: الأولاد والزوجة ونحوهم، قال صلى الله عليه وسلم «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل» رواه أبو داود.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بإباحة التعدد إن استطاع الرجل أن يقيم العدل بين نسائه، وذلك خلافًا لأهل الظاهر الذين أوجبوا التعدد على من كان مستطيعًا لذلك، واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}، وقالوا: إن الأمر يدل على الوجوب، ولكن جمهور الفقهاء أجابوا بأن دلالة الوجوب قد صرفت بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25]، قال الرازي: "فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب، فضلًا عن أن يقال إنه واجب".
وأما زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة في آن واحد؛ فذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، قال البغوي في ذلك: "وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها".