هيأ الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم للرسالة بالرؤيا الصالحة، التي كان يراها قبل البعثة، كما هيأه أيضا باشتغاله برعي الغنم، فأول ما اتجه إليه من العمل هو رعي الغنم في بني سعد مع إخوته من الرضاعة ثم رعاها في مكة. وعمل نبينا صلى الله عليه وسلم برعي الغنم ليس أمراً خاصاً به دون الأنبياء، بل كان ذلك له ولإخوانه من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط (جزء من الدينار، أو موضع بمكة) لأهل مكّة) رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل: (أكنْتَ ترعى الغنم؟ قال: نعم، وهل مِنْ نبي إلا رعاها) رواه البخاري. قال ابن عبد البر:"وفي هذا الحديث إباحة التحدث عن الماضين من الأنبياء والأمم لِسِيَرِهم وأخبارهم، وفيه أن التحرُّف في المعيشة ليس في شيء منها إذا لم تنه عنه الشريعة نقيصة، وفيه أن الأنبياء والمرسلين أحوالهم في تواضعهم غير أحوال الملوك والجبارين، وكذلك أحوال الصالحين".
لقد كان رعي النبي وإخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الغنم سنة من سننهم في أوائل حياتهم، وفيه من الفوائد الكثير، منها:
الخلوة والصبر:
عمَل النبي صلى الله عليه وسلم برعي الغنم أتاح له الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ووفَّر له الخلوة والتأمل في مظاهر جلال الله عز وجل في عظمة الخَلق، كما يسَّر له نوعاً من التربية النفسية على الصبر والحلم، نظرا لبطء الغنم في الأكل، وحاجتها إلى مناطق الخصب والري، والبُعْد بها عن مواطن الهلكة والخوف، وهو مع ذلك ـ راعي الغنم ـ يعيش في جو حارٍ شديد الحرارة، ولا يجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، ومن ثم يحتاج إلى الصبر والتحمل والشفقة.، قال ابن عقيل: " لما كان الراعي يحتاج إلى سعة خُلق وانشراح صدر للمداراة وكان الأنبياء مُعدّين لإصلاح الأمم حَسُن هذا في حقهم".
العمل والسعي على الرزق:
رعَىَ النبي صلى الله عليه وسلم الغنم في صغره في بادية بني سعد، وفي فتوته بأجياد في مكة على قراريط، وهو أجر زهيد يتكسب به ويعف نفسه، ثم عمل صلى الله عليه وسلم بالتجارة في شبابه، ومع أن الله عز وجل قادر على أن يغني نبيه صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ومن اليسير أن يهيئ له وهو في صدر حياته من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيًا وراء الرزق، إلا أن الله تعالى يعلمنا أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بسعيه وعمله، وكذلك يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بعمله ـ رعيه للغنم ثم بعد ذلك عمله بالتجارة ـ، ويرشدنا بقوله. عن المقدام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري.
التواضع والشفقة:
طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم، والإشراف عليها، والقيام بحراستها، والنوم بالقرب منها، ومع المداومة والاستمرار على هذا العمل يبعد عن نفسه الكِبْر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خُلق التواضع، وكذلك يقوم الراعي بمقتضى عمله في مساعدة الغنم والعطف عليها وعلاجها وتخفيف آلامها إن هي مرضت أو كُسِرت أو أصيبت، ومَن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان، وبخاصة إذا كان رسولاً أو نبياً أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين.
قال النووي: "والحكمة في رعاية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم للغنم، ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفى قلوبهم بالخلوة ويترقوا بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة".
وقال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح (مكان) إلى مسرح (مكان)، ودفع عدوها مِنْ سَبْعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصَّت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. وفي ذِكْرِ النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بِمِنَتِهِ (بفضله) عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء".
مِنْ حكمة الله تعالى أن يختار مِن عباده أناساً لأداء رسالاته ويصطفيهم لتبليغ دعوته، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(الحج:75) قال السعدي: "أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا يكونون أزْكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المصطفِي لهم، السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم، عن علم منه، أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)". ومن أجل تهيئتهم لهذه المهمة العظيمة فإنه سبحانه يربيهم تربية عملية، ومما جاء في ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن رعي الغنم كانت مهنته ومهنة إخوانه من الأنبياء صلى الله عليه وسلم في أوائل حياتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت، فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) رواه البخاري. ومن الحكمة في رعي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم بالتمرن والتعود على رعايتها القدرة على رعاية أممهم، والقيام بشؤونهم، إذ في رعيها ما يحصل لهم الحلم والشفقة والرحمة، ويُعَوِدَهم مِن الصِغر الشجاعة والصبر والأناة، ويربّي فيهم ملكة الحرص على المصلحة ودفع المضرة، والرفق بمن تحت أيديهم، والسهر على مصلحتهم.. هذا إلى ما في رعي الغنم للراعي من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية، فيطيل التأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض والجبال وغير ذلك من مظاهر قدرة وعظمة الله عز وجل..
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من المولد إلى البعثة