تعددت البشارات في الكتب السماوية السابقة على لسان أنبيائهم بخاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث بشروا بقدومه، وأمروا أتباعهم بالإيمان به وتصديقه إذا ظهر، وقد أخبرنا الله ـ عز وجل ـ بذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(آل عمران:81). قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعِث محمَّد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه".
والأنبياء جميعا ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لو قّدِّر لهم أن يجتمعوا في وقت واحد ويعاصروا نبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما وسِعَهم إلا أن يؤمنوا به ويتبعوه. قال السعدي: " فكل الأنبياء لو أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم".
وروى أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم، والبغوي في شرح السنة، وابن هشام في السيرة النبوية: "أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟، قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى".
دعوة إبراهيم:
لما أخذ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في بناء البيت، دعا الله تعالى أن يجعل ذلك البلد آمنا، ويجعل أفئدة من الناس تهوي إليه، ويرزقهم من الثمرات والطيبات، ثم قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}(البقرة: 129)، وقد استجاب الله عز وجل دعوته، وبعث في الأميين (العرب) رسولاً منهم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2). قال البيهقي: "(أنا دعوة أبي إبراهيم) ومعناه: أن الله تعالى لما قضى أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأثبت ذلك في أم الكتاب، أنجز هذا القضاء بأن قيض إبراهيم عليه السلام للدعاء الذي ذكرنا ليكون إرساله إياه بدعائه".
وبُشْرَى عيسى:
بشَّرَ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمته برسولنا صلى الله عليه وسلم، والله تبارك وتعالى أخبرنا بذلك في كتابه، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصف:6) .
قال البيهقي: "وقوله: (وبشارة عيسى): فهو أن الله تعالى أمر عيسى ـ عليه السلام ـ فبشر به قومه، فعرفه بنو إسرائيل قبل أن يُخْلَق".
وقال ابن كثير في تفسيره: "والمراد أن أول مَنْ نوَّه بذِكره وشهره في الناس، إبراهيم ـ عليه السلام ـ، ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا، وهو عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبا، وقال: {إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصف:6)، ولهذا قال في هذا الحديث: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم".
وقال الإمام الماوردي في "أعلام النبوة": "تقدمت بشائر مَنْ سلف من الأنبياء، بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونا للرسل، وحثا على القبول، فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم مَنْ عزاه إلى قومه، ومنهم مَنْ أضافه إلى بلده، ومنهم مَنْ خصَّه بأفعاله، ومنه مَنْ ميّزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى هذه الصفات جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال، ويقينا بعد الارتياب".
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم بُشِّرَ به في التوراة والإنجيل كثيرة،منها قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف:157)، وقوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الفتح:29) .
وعن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه - قلتُ: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(الأحزاب:45)، وحِرْزاً (حفظا) للأميين (العرب)، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب (عالي الصوت) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عمياء، وآذانا صُمَّا، وقلوبا غلفا ) رواه البخاري.
وفي أحاديث قصة النجاشي ملك الحبشة وهرقل ملك الروم ـ وكانا يدينان بالنصرانية ـ ما يثبت علمهما بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم من كتبهم قبل تحريفها..
لقدْ بَشَّر الأنبياء السابقون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا بفضله ونبوته، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال، حيث صرحوا باسمه وبلده وسمته، وكان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، إلا أنهم حرفوا كتبهم، وحذفوا اسمه ووصفه منها، لأنهم كانوا ينتظرون أن يخرج نبي آخر الزمان منهم، فلما خرج من العرب حسدوهم على ذلك وكفروا به، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(البقرة:146). قال السعدي: "يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم، وعرفوا أن محمدا رسول الله، وأن ما جاء به، حق وصدق، وتيقنوا ذلك، كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وصلت إلى حد لا يشُكُّون فيه ولا يمْترون، ولكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به، كتموا هذه الشهادة مع تيقنها، وهم يعلمون".
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:20). قال ابن كثير: "قال الله ـ عز وجل ـ مخبرا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه وصفته، وبلده ومهاجره، وصفة أمته، ولهذا قال بعد هذا: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: خسروا كل الخسارة، {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم