شرع الله تعالى لهذه الأمة الاجتماع في المساجد في أوقات معلومة لمقاصد سامية في الدنيا والآخرة، وقد أولى فقهاء الشريعة صلاة الجماعة عنايتهم بحثا عن مختلف أحكامها الفقهية، وأبرز علماء المقاصد والأسرار ما تتضمنه هذه الشعيرة من غايات وحكم باهرة، وليس بغريب أن تسجل السنة النبوية حضورا واضحا في إبراز مقاصد صلاة الجماعة، من خلال النظر الكلي إلى مجموع نصوصها الواردة في ذلك.
المقصد التعبدي لصلاة الجماعة:
الأساس في مقاصد صلاة الجماعة أنها صلة بين العبد وربه، وتقوية لهذه الصلة، بحيث ترتقي علاقته الروحية بربه إلى مستوى عال من اليقظة التي تمكنه من أن يعبده فيها كأنه يراه، وبالتالي رفع درجات المراقبة والمحاسبة والخوف من الله، فضلا عن رفع درجة إيجابيته الاجتماعية، وهذا المقصد الروحي للصلاة، يعد من أهم مقاصدها، لأن هذا هو غاية الخلق عموما، وتأتي بقية المقاصد تابعة لهذا الأصل.
فعلمه أن المساجد بقاع مقدسة، وأن الاجتماع فيها له مقصود شريف، وهو ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، ومجموع تلك الأعمال هو التعبد لله تعالى، وتقوية الارتباط بين العبد وربه تبارك وتعالى، وهذا المقصد ظاهر غني عن الاستدلال عليه.
مقصد الاجتماع والألفة:
الاجتماع هو: "الاتفاق واتحاد الرأي" كما قال ابن عاشور التحرير والتنوير، ولا شك أن الاجتماع لصلاة الجماعة في المساجد لا يقصد به مجرد اجتماع الأبدان، إذ قد يتفق ذلك في المجالس، والأسواق، والمناسبات العامة، ولكن المقصود به اجتماع مبني على الألفة، والصلة الإيمانية بين المصلين، وذلك مظنة الوحدة الفكرية، واجتماع الرأي.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على التنبيه على هذا المعنى، كما في حديث أبي مسعود قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" رواه مسلم، فهي بهذا الاعتبار رمز لوحدة المسلمين وجمع قلوبهم واتحاد صفوفهم، كما في حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية"، قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة. رواه أبو داود بإسناد حسن، والمتأمل في طبيعتها وأهدافها وخصائصها ووظائفها الروحية والاجتماعية، يلاحظ أثرها على تنمية الحس الاصطلاحي والخيري لدى المسلم، والعمل على السير بها قدمًا في اتجاه الانسجام والتوازن والصلاح والخير.
ولذلك قال ابن العربي في أحكام القرآن في التعليق على قوله تعالى: {وتفريقا بين المؤمنين} [التوبة: 107]: يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة؛ وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة. انتهى.
وقد شرع الاجتماع للصلاة مع اختلاف أغراضها ومناسباتها، فشرعت لصلاة الفرائض الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة التراويح، وصلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، مما يدل على أن الصلاة مقترنة بالاجتماع في أغلب أحوالها.
ولما لم يكن الغرض هو مجرد جمع الناس في مكان واحد فحسب، بل شرع لهذا الاجتماع أمور تنظمه، وتحقق مقصد الألفة والانضباط، كتسوية الصفوف، واحترام قدسية المكان بعدم رفع الأصوات، وهيشات الأسواق، والنهي عن إنشاد الضالة، والنهي عن مسابقة الإمام، أو الاختلاف عليه، حينها تبين أن المقصد هو الاجتماع المنتظم، الذي تتهذب به كل نوازع الفرقة والاختلاف والأنانية.
فحرصت الشريعة على أن يكون الإمام موضع رضا من المأمومين، بمعنى غير ساخطين له، حتى يتحقق به مقصد الاجتماع، كما في حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "ثلاثة لا يقبلُ الله منهم صلاةَ: (وذكر منهم) مَن تقدَّمَ قوماً وهم له كارهون...الحديث" رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ويستدل أيضا في هذا المقام بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد صلاة الجمعة، وفعل الخلفاء الراشدين من بعده، مما يدل على تأكد مقصد الاجتماع، وهكذا رأي فقهاء الأمصار في منع تعدد الجمعة إلا على سبيل الاستثناء للحاجة الظاهرة، عند توسع الدول والأقطار، وإلا فيبقى الرأي على جمع الناس في خطبة واحدة، فهذا أدعى لتحقيق مقصد الاجتماع، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، بخلاف ما جرى في هذا العصر من التساهل في إنشاء الجمعة دون التفات إلى ما سبق، فهذا يعود على مقصدها بالنقص والاختلال.
يقول الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين. انتهى