يقول شيخ الإسلام: (وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال؛ والأبضاع والأنساب؛ والأعراض، ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله). مجموع الفتاوى.
ويقول ابن خلدون عن الظلم الذي هو نقيض العدل تماماً: (واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال). مقدمة ابن خلدون.
ففي الولاية العامة التي من أعظم مقاصدها إقامة العدل بين الناس، وإيصال الحقوق إلى أهلها، وجعل الرعية سواسية أمام الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية غير المؤثرة في الاستحقاق والوجوب، وقد كان هذا المقصد واضحا عند الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، لما تولى الخلافة خطب الناس فقال: «القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له حقه».
والقضاء الذي يعتبر أبرز أدوات الولاية لتحقيق مقصد العدالة الاجتماعية، فقد جاء في السنة الترغيب بذلك والترهيب من ضده، كما في حديث عبد الله ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار). رواه أبو داود في كتاب الأقضية، وصححه الألباني في تعليقه.
فبالعلم والعدل يتحقق مقصود الشرع من إعطاء كل ذي حق حقه، أما إذا حكم القاضي بلا علم في المسألة، أو عدل عن الحق بعد علمه به، فعند ذلك لم يختل مقصود الشرع من نصب القضاة، ويستحق من اتصف بتلك الصفات، من عدم العلم أو عدم العدل النار؛ لأنه ضيع حقوق العباد التي حفظها لهم الشرع المطهر.
وفي المعاملات المالية أرست السنة الشريفة معاني العدل من خلال ميزان الالتزامات، واستواء كفتي الغرم والغنم في المعاملات، وضمان المتلفات، كما في الحديث المشهور (الخراج بالضمان)، وقصة هذا الحديث عن عائشة، أن رجلا اشترى عبدا فاستغله، ثم وجد به عيبا، فرده، فقال: يا رسول الله إنه قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
فسرى هذا الحديث قاعدة كلية في سائر العقود حاكما في ضمان الأعيان، لتحقيق التوازن بين المكاسب والالتزامات، وهو محقق لمقصد العدل في المعاوضات المالية، ويظهر أيضا من خلال الاستحقاقات بين المتعاقدين كخيار العيب، وخيار الشرط، وتحريم الغرر، والغبن والربا، والمنع من كل ما يؤول إلى ظلم أحد المتعاقدين، كالنجش، وتلقي الركبان، وبيع حاضر لباد، وغيرها، ونصوص ذلك من السنة كثيرة.
وفي مجال البناء الأسري حرصت السنة النبوية على أن تدار بالعدل، وحذرت رب الأسرة من الجور ولو في أبسط الأشياء، فأمر بالعدل بين الأولاد في العطية، فقد ثبت في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلاً، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك فقال له: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". وقال: "لا تشهدني على هذا؛ فإني لا أشهد على جور". وقال له: "اردده". فرده بشير، وقال له على سبيل التهديد: "أشهد على هذا غيري".
وحتى في العلاقة بين المسلمين وبين أعدائهم، وأهل الحرب منهم، فقد أرشدت السنة إلى مجموعة من التعاليم العادلة، والقيم الراشدة، كما في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس قال: كان رسول الله-صلي الله عليه وسلم- إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله، من كفر بالله، لاَ تَغْدِروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا الوِلْدَان، ولا أصحابَ الصَّوامع".
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن أنس بن مالك، أن رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم- قال: "انطلِقُوا باسم الله، وبالله، وعلى مِلَّةِ رسول الله، ولا تقتُلوا شيخاً فانياً. ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأةً".
فنهى عن كل ذلك لأنه منافٍ للعدل الذي جاء به الإسلام العظيم، فأي مصلحة في قتل الضعفة كالصبيان والأطفال والشيوخ الذين لم يشاركوا في القتال، وفي ذلك تنبيه لهذا المبدأ والأصل العظيم في الإسلام وهو العدل مع المخالف حتى ولو كان على غير ملة الإسلام، مع كون القتال متصل بتحقيق مقصد حفظ الدين، غير أن ذلك مقيد بمقصد العدل، إذ الدين هو العدل، ولا يحفظ الدين بالظلم والتعدي، فالمقاصد الشرعية لا تتقاطع بل تتكامل.
وفي التشريعات الجنائية في السنة النبوية يبرز فيها العدل بأبهى صوره، من خلال تحقيق مبدأ التساوي بين الناس أمام تلك التشريعات، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" رواه البخاري ومسلم.
ومن خلال التناسب بين الجرم والعقوبة سيجد المتأمل في التشريعات الجنائية في القرآن والسنة التناسب العادل بين تلك الجنايات وعقوباتها المقدرة، وعلى سبيل المثال في توزيع الديات في الجناية على النفس أو على ما دونها من الأعضاء، من خلال حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرأت على أهل اليمن هذه نسختها: «من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد»، وكان في كتابه «أَنَّ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ». رواه أهل السنن وصححه الألباني في إرواء الغليل.
ومن خلال هذه اللمحة السريعة يتبين لنا أن العدل مقصد ملحوظ في السنة النبوية، وأن رعاية الحقوق وتوزيع الالتزامات قائمة على هذا الأساس المتين، وأن المسلمين أحوج ما يكونون إلى استلهام هذا المعنى من خلال النصوص النبوية القولية منها والتطبيقية، والتزام ذلك في كل ما يستجد من المعاملات والنوازل، وأن لا يهملوا الاستبصار بهذا المقصد الكلي الذي تنضبط به الحياة، وتنتظم به أحوال الناس جميعا.