خلق الله الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملا، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك:2)، ثم يوم القيامة يبعثهم ليحاسبهم على ما عملوا، وحينئذ ينقسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما، فريق في الجنة وفريق في السعير، إذ ليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
ومن أراد أن ينجو من عذاب الله، وأن يفوز بجنة الله فلابد له من هدايتين:
هداية إلى الطريق.. طريق النجاة الموصل إلى رضوان الله.
وهداية في الطريق.. حتى يستقيم فيه، ويستمر عليه، فلا يضل عنه بعد إذ عرفه، ولا يخرج منه بعد إذ دخله.
الهداية إلى الإسلام
فأما الهداية الأولى: فهي الهداية الموصلة إلى طريق النجاة، وليس ثمة طريق إلا الإسلام.
والإسلام له معنيان: معنى عام، ومعنى خاص.
فأما الإسلام بالمعنى العام: فهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله، من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فنوح يقول: {وأمرت أن أكون من المسلمين}.. وإبراهيم {قال له ربه أسلم قال أسملت لرب العالمين}.. وموسى يقول: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}.. ويعقوب كأبيه {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.. ويوسف قال {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين.
وعليه كان المسلمون في كل زمان هم أتباع نبي ذلك الزمن، فأتباع كل رسول في كل زمن هم المؤمنين، وهم المسلمون، وهم أهل النجاة، وهم أهل الجنة.
بقي الأمر على هذ الحال حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم رسله، نسخ برسالته جميع الرسالات، وبدينه جميع الأديان، وبشريعته جميع الشرائع، وجعل الكتاب الذي أنزله إليه حاكما على كل الكتب ومهيمنا عليها {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}، وأرسله بهذا الدين الإسلام إلى الناس كافة {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}، {وأرسلناك للناس رسولا}، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، {لأنذركم به ومن بلغ}..
وأمر كل الخلق أن يتبعوه، وأن يؤمنوا به، وأن يتبعوا رسالته، وأن يدخلوا في دينه دين الإسلام بالمعنى الخاص الذي أصبح هو معنى الإسلام عند الله سبحانه وتعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته لعلكم تهتدون} (الأعراف:158).
وجعل الله هذا الإسلام وهذا الدين الذي أرسل به محمدا هو الطريق الأوحد للنجاة، لا نجا إلا بالدخول فيه، ولا سبيل للوصول الجنة إلا أن تكون من أهله كما قال تعالى : {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .. {إن الدين عند الله الإسلام}.
حتى اليهود والنصارى ـ فضلا عن غيرهم ـ لا يدخل أحد منهم الجنة، ولا ينجو أحد منهم من النار، إلا أن يؤمن بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، ويؤمن برسالته، ويكون من أتباعه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه : [والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار].
فلو أن اليهود لم يقولوا يد الله مغلولة، ولم يقولوا عزير بن الله، ولم يقولوا إن الله فقير ونحن أغنياء، ولم يقتلوا الأنبياء ولم يبدلوا دينهم ولم يحرفوه كما فعلوا، لو فرضنا كل ذلك وفرضنا أنهم كانوا على الهدى المستقيم الذي جاء به من عند الله، لما كان لهم أن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا بمحمد رسول الله ويقبلوا دينه وما جاء به.
ولو أن النصارى لم يعبدوا المسيح بن مريم، ولم يقولوا إنه ابن الله، ولم يقولوا ثالث ثلاثة، ولم يبدلوا ولم يحرفوا، ولو أنهم عبدوا الله بما جاءهم به عيسى من الهدى والدين الصحيح، وكانوا كما كان الحواريون، لكانت الجنة عليهم حراما حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويدخلوا دينه، ولكانوا كفارا من أهل النار.
بل أعجب من هذا.. لو أن موسى عليه السلام نبي الله كان حيا وقت بعثة سيدنا محمد رسول الله لم يكن أمامه أي أختيار إلا أن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يدخل في دينه الذي جاء به.
روى الأمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر بن الخطاب أوراقا من التوراة غضب غضبا شديدا وقال: [أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب!! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.... والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني](رواه أحمد وغيره).. يعني لم يكن أمامه أي طريق إلا ذلك.
ذلك أن الله لما أرسل المرسلين أخذ عليه الميثاق ـ من أول نوح إلى عيسى ـ لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنَن به ولتتبعَنَّه، فشهدوا بذلك وأقروا به.. {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون}(آل عمران:81ـ 83).
فما عاد لأحد أبدا اختيار بعد بعثة رسول الله أن يختار نبيا يعجبه فيتبع دينه ويتبع رسالته أبدا.. محا الله ذلك كله، وجعل النجاة محصورة في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فكل من لم يؤمن برسول الله ولا بكتابه ولا برسالته فهو كافر من أهل النار.
هذه هي العقيدة التي بينها الله في كتابه، وأخبر بها النبي صلوات الله عليه وسلامه في سنته، والتي كان عليها المسلمون طوال القرون الماضية، والتي نقلها لنا العلماء على مدى العصور.
قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}: "إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}[آل عمران: 85] وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: {إن الدين عند الله الإسلام}".
وهذا إذا كان في اليهود والنصارى وهم أتباع أنبياء وأهل كتاب، فهو من باب أولى في الملحدين المنكرين لله تعالى ورسالاته ورسله، وكذلك الوثنيين الذين يعبدون البقر والشجر والحجر والبشر، وعباد النار وغيرها من الأديان المخترعة والآلهة المصطنعة.. فهو مصير كل ملحد ومعاند ومشرك وكل من لم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} صدق الله العظيم.