المتتبع للصحيحين البخاري ومسلم يظهر له أنهما رويا لبعض الرواة المتكلم فيهم، وقد استشكل هذا الأمر بعض من لم يبلغ كعبه في العلم، فذهب يطعن فيهما، ويضعف الحديث بسبب ذلك، علما أن الشيخين لم يذكرا شرطهما في الرواة الذين سيخرجان أحاديثهم، وإنما اشترطا أن يخرجا ما صح عندهما.
فالبخاري قال: لم أخرج ما في هذا الكتاب إلا صحيحا، ولم يتعرض لأمر آخر، ومثله الإمام مسلم.
وعلى هذا قبل الطعن في الصحيحين بسبب روايتهما عن هؤلاء المجروحين، فإن البخاري ومسلم إمامان معتبران عند علماء الجرح والتعديل، وعلاوة على ذلك فقد ألفا في الرجال مصنفات متفرقة، هي عمدة النقاد في معرفة الرواة والحكم عليهم، ولبيان هذه الإشكالية، فإن هناك اعتبارات علمية لدى الشيخين في التخريج لبعض من تكلم فيه، ومن ذلك مثلا أن يكون الكلام في هذا الراوي الذي أخرجا حديثه، يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ولا ينافي ذلك أنه يصلح لأن يحتج به مقرونا، أو حيث تابعه غيره، أو نحو ذلك.
وأيضا قد يخرج الشيخان لأحد الرواة الذين تكلم فيهم ، لكنهما إنما أخرجا له في حالة خاصة، كأن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما سمع منه من غير كتابه، أو بما سمع بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس، ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس، ومن هنا يمكن تلخيص هذه الاعتبارات العلمية على النحو التالي:
ـ منهج الانتقاء لحديث الراوي المتكلم فيه: كحديث إسماعيل بن أبي أويس، فإن البخاري ينتقي من حديثه إذا حدث من كتابه، ويدع حديثه إذا كان من حفظه، وذلك لأن في حفظه شيء، ومنها حديث يحي بن بكير عن أهل الحجاز، فإن البخاري يتقي حديثه عنهم لأنه لم يضبطه وأخطأ فيه، ويقبل روايته إذا كان عن غيرهم، ولهذا ما أخرج عنه عن مالك سوى خمسة أحاديث متابعة، ومعظم ما أخرج عنه عن الليث. (هدي الساري).
ومنها حديث شيبان بن عبد الرحمن النحوي، فإن البخاري كان يتقي روايته عن الأعمش، لأن فيها بعض المناكير، ويروي له ما سوى ذلك، وكذا الإمام مسلم أخرج لأحمد بن عبد الرحمن الوهبي، وقد تغير حفظه، إلا أن مسلما أخذ عنه قبل حصول هذا التغيير.
ـ التخريج لهم في الشواهد والمتابعات: من الاعتبارات العلمية عند الشيخين، التخريج لهؤلاء الرواة المتكلم فيهم في الشواهد والمتابعات، لا في الأصول، كما فعل مع عمران بن حطان متكلم فيه، وكان داعية إلى مذهبه، فأخرج له في المتابعات، ومنها حديث حصين بن نمير الواسطي، قال ابن حجر: أخرج له البخاري في أحاديث الأنبياء وفي الطب حديثا واحدا تابعه عليه عنده هشيم ومحمد بن فضيل.
ـ ومن الاعتبارات أيضا التخريج للراوي في باب لا تعلق له بالعقائد والأحكام الشرعية: وإنما في بعض الاستطرادات، والفوائد والمناقب، والفضائل ونحو ذلك، وهذا قليل جدا، لا تكاد تجده إلا في موضع، أو موضعين، ومثاله : تخريج البخاري لأبي العباس الساعدي، وهو ضعيف عند المحدثين، ضعفه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم.
وعند النظر إلى حديثه نجد أن البخاري أخرج له في موضع واحد من صحيحه في باب اسم الفرس والحمار، يعني اسم الفرس والحمار التي يركبها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين أنه لم يخرج له في العقائد والأحكام.
ـ ومن الاعتبارات التخريج للراوي طلبا لعلو الإسناد: وهذا كان مرغوبا به عند السلف، وحتى عده بعضهم سنة مستحبة، حتى قال الإمام أحمد: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف.
وهذا ما دفع البخاري أو مسلم إلى إخراج حديث المتكلم فيه، طلبا لعلو إسناده، وهو عنده من روايات الثقات نازل، كما فعل مع أسباط بن نصر، وهو متكلم فيه، حين اعترض على مسلم إدخاله في صحيحه، قال رحمه الله: وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات على شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلى عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.
هذه بعض الاعتبارات العلمية التي كان البخاري ومسلم يخرجان لبعض الرواة المتكلم فيهم، فمن عرفها زال الإشكال عنه، واطمأن لصحة ما فيهما.