بين الفينة والأخرى يرسل الله جل في علاه من الآيات ما يذكر الناس بقدرته الباهرة وعظمته القاهرة، ويبين للخلق عجزهم أمام عظمته وقدرته وجنده الذي لا يعلمه إلا هو لعلهم يتذكرون.. فلعل كافرا يؤمن، أو غافلا يفيق، أو عاصيا يتوب.. وهي سنة الله في خلقه.
إن التعاليم التي جاء بها ديننا وأرشدت إليها سنة نبينا صلى الله عليه وسلم في التعامل مع مثل هذا الوباء الذي غزا بلاد العالم وغشاها، وأرعب القلوب وسلب الأجفان كراها، لمما يزيدنا شرفا بانتسابنا لهذا الدين الذي لم يدع الله تعالى شيئا إلا وبينه لنا فيه كتابا أو سنة.. حتى هذا المرض العضال وذاك الوباء القتال.. فعلمنا كيف نتعامل معه ومع أمثاله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَاب تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}(النحل:89).
لقد ضرب المرض بلادا وانتقل إلى أخرى كثيرة، حتى لا تكاد تخلوا منه بلد، وانتقل إلينا كما انتقل لغيرنا، فليس في هذا منقصة ولا غضاضة..
ومثل هذه الأوبئة علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معها، ثم جاء من بعد ذلك الطب ليؤكد ما سبق إليه الكتاب والسنة، مما يزيد المؤمن إيمانا وتصديقا بدين الله وسنة نبيه وكمال شريعته.
التعامل مع الوباء
لقد لوحظ مع الإعلان عن ظهور المرض أن البعض أخذ ينشر الشائعات، وينقل الأخبار الكاذبات، حول عدد المرضى وأعداد الوفيات، فيروع المؤمنين ويحزن المسلمين، وقد نهانا الله ورسوله عن نقل الكذب، ونشر الشائعات، وترويع المؤمنين بأي شكل من الأشكال.
ثانيا: إن بعض الناس أصابهم الهلع، وأطبق على قلوبهم الخوف وأقعدهم الرعب والفزع، وكأنهم تيقنوا المرض أو الهلاك، فمرضوا من غير مرض، وماتوا وهم أحياء.. ولهم ولأمثالهم نقول: اربعوا على أنفسكم، وخففوا الوطء، وهونوا المصائب تهون، فما هكذا تورد الإبل..
إننا لا نقلل ولا نهون، ولكننا أيضا لا نضخم ولا نهول، فكما لا ينبغي التقليل والتهوين فكذلك أيضا لا يجوز التضخيم والتخويف والتهويل.. فالمصائب تكون ثم تهون.. وكم من مرض كان ثم زال، وكم أوبئة حلت ثم اضمحلت، وتوالت ثم تولت.. والله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء.. فتفاءلوا بالخير تجدوه، فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم متفائلا يحب الفأل والتفاؤل. انشروا بين الناس الطمأنينة بدلا من أن تخوفوهم. وافتحوا لهم باب الأمل بدلا من أن تقنطوهم.. فما هي سحابة ولابد لها أن تنقشع.
الأخذ بالأسباب
وليس معنى هذا التواكل والتخاذل، وإنما التوكل والأخذ بالأسباب، ثم تسليم القلب لرب الأرباب جل في علاه.
فمن الأخذ بالأسباب قبل ظهور المرض، الدعاء بالعافية كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم.. فكان يقول في دعائه: [اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة....] ، ويقول: [اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت]، ويقول: [اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الأسقام](رواه أبو داود).
وأما إذا ظهر المرض وانتشر، فالوقاية في البعد وعدم الاختلاط: ففي الحديث [لا يورد ممرض على مصح]، فمنع من اختلاط المصح بالمريض، وقال: [وَفِرَّ من المجذوم كما تَفِرُّ من الأسد](أخرجه البخاري)؛ حتى لا تنتقل العدوى، وهو ما يسميه أهل الطب بالحجر اتقاءً لانتقال العدوى وانتشار المرض.
وحتى لا يتعلق القلب بغير الله قال عليه الصلاة والسلام: [لا عدوى ولا طيرة]، ولما سئل عن انتقال الأمراض بالعدوى قال [فمن أعدى الأول؟].. وليس هذا نفيا لذات العدوى، وإنما نفي لانتقالها بنفسها من غير أمر الله.. ليعلم العبد أن كل شيء إنما هو بأمر الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:51).
ومن الآداب الإسلامية في ذلك: أن المريض ينبغي أن يسعى للتداوي كما أمره الإسلام ورسوله فقال: [تداووا عباد الله]، وليس في هذا طعن في التوكل فقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأخذ بالأسباب، ومعلوم أنه كما أن الاعتماد الكلي على الأسباب طعن في التوحيد، فكذلك نفي الأسباب طعن في التشريع.
ومن آداب المريض: ألا يخالط إخوانه.. ولا يحضر اجتماعاتهم وتجمعاتهم ـ وهو مرخص له في ترك الجمع والجماعات والأعياد ـ حتى لا ينقل المرض إليهم قال صلى الله عليه وسلم: [لا ضرر ولا ضرار]، وقال: [كل المسلم على المسلم حرام].
ومن الآداب الإسلامية أيضا: التزام النظافة، وديننا بحمد الله دين النظافة، فالوضوء خمس مرات، ومن السنة غسل اليد قبل الأكل، وأيضا غسل الفم بعد الأكل وعدم النوم وفي الفم زهومة أو أثر طعام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [مَنْ بات وفي يده غَمْرٌ ولم يغسله فأصابه شيءٌ فلا يلومنَّ إلا نفسَه](أخرجه أحمد)، والغَمْر: هو ريح الطعام وأثر زهومته.
وكل هذه التدابير الشرعية النبوية جاءت مؤسسات الطب الحديث لتؤكدها وتطالب الناس باتباع أشباهها دفعا للمرض ورفعا للوباء وتقليلا لمخاطر الإصابة به.. فالحمد لله على نعمة الإسلام وشرع الرحمن.
ومما ينبغي أيضا التزام ما اتخذته الدولة وذوو الاختصاص من تدابير للحماية من المرض ومحاصرته، أو تقليل خطره.
الدعاء لرفع البلاء
إن الأخذ بالأسباب الدنيوية والوقائية أمر جميل وقد أمرنا الله بسؤال أهل الذكر {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، ولا يعني هذا إغفال الأسباب الدينية وطرق الأبواب الإيمانية التي أمرنا الله تعالى بها أيضا كما أمرنا بالأخذ بأسباب الدنيا..
وقد قال علي رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة"، ولا يرفع البلاء بمثل الدعاء وصدق الرجاء والتضرع لرب الأرض والسماء {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا}، فالتوبة إلى الله وملازمة الاستغفار وكثرة الدعاء ترفع بإذن الله البلاء {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل:62)}
فتوبوا إلى ربكم واستغفروه، وأكثروا من التضرع والدعاء فإنه سميع قريب مجيب.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك فاغفر لنا وتب علينا.
اللهم ارفع عنا البلا والوبا والمرض والفتن ما ظهر منها وما بطن.